الأحد 2024/5/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 30.95 مئويـة
مكائد "القرن بعد اكتماله" في رواية ذكرى محمد نادر
مكائد "القرن بعد اكتماله" في رواية ذكرى محمد نادر
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

     حسن عبد الحميد

      يغدو ... النقد ... ليبدو في أصح وأنصح توظيفاته التقليدية الصرفة  ممارسة مرهونة بالوعي المحض، ما تشاء أن تفرض أنماطها القوالبية لتحاذر المساس وتحييّد مساعيها نحو الإطراء المعلن، وتحاشي الوصف والتصويب المباشر وغيرها من قواعد وتنسيقات اعتبارية لمكانة النقد وهيبة وقاره في مجمل اشتغالاته التوجيهية والإبداعية، أسوق رأياً للمفكر الكبير والشاعر الفذ " أوكتافيو باث" يرى فيه أن الأمة التي تخلو من النقد.. أمة بلا روح، فيما يتراصف رأي أرسطو بالإعلان بأن القاعدة الذهبية.. هي اللا قاعدة. 

   ما أروم الوصل به والوصول إليه  بعد كل ما ورد، وأنا أبغي وأتطلع إلى تناول رواية الكاتبة المبدعة  ذكرى محمد نادر "القرن.. بعد اكتماله" * السعي لتمرير محاولة  أتفادى بها مصدّات سواتر قوانين النقد ومعالجة جوانب من تجاذباته الصارمة، بالأخص فيما يتعلّق بتقديم جوافل العاطفة وشمائل الوجدان وسيول أكسير نزق المشاعر مرهونة بالدهشة، التي يصفها الروائي التشيكي "ميلان كونديرا" على أنها توّتر حيوي، وعلى حساب ما أوردنا ولّمحنا أجدني أرتمي احتماءً وقصداً مسنوداً بسوابل "جمع سُبل"، بالمناسبة.. سُبل هو أسم إحدى شخصيات رواية ذكرى المحوريّة لا تقل أثراً عن دور أختها  "مراثي" البطلة المثلى والمتفردة في أنساق هذا العمل الملحمي، في أحضان عبارة " نيتشه" القائلة: "ما قيمة فضيلتي إن لم تجعل مني إنسانا ًعاطفياً"، حِرزاً ومدخلاً لهذه الرواية النادرة والعظيمة"، ومنها ساعياً للتسليم بمرامي التقييم بُغية فرض تبنيه في اقتفاء أثر الذائقة بإدراك متسعات عمق مناسيبها في تعميد محتويات الذاكرة ولوامع المعرفة ولوازم الفكر الحر والمفتوح باتجاه نوازع جمالية ورؤى تأملية من شأنها السماح لمهارات الوصف و دواعي الرصف مشفوعة بنبل المشاعر المتدّفئة بجمرات نيران العواطف وشذراتها الخواطرية حين تصول وتجول في رحاب هواجعها أو تتناسل على هدي ورسل أهوائها، بل حتى في تواثب تجلياتها الروحية ونوازعها الدفاعيّة عن صدقيّة إنسانية الإنسان وسمو قيمته العليا دون تقييد لحواصر "من حصر" ومضايقات تلزم التزام الكاتب الانصياع لها وفق مقتضيات ثقة وأهمية جوهر العملية الابداعية وغايتها السامية والنبيلة.

  الانهيار الثلجي

--------------------

  

    شاء أن تجلّت الرواية عبر براعة  تبنيها  ذلك الاستهلال الغريب، الفاجع والموجع والمدهش في ذات التأثير المروّع، حين تباهى مُتدّثراً، واثباً أمام هول وصدمة كارثة الانهيار الجليدي المميت الذي طال في آخر يوم من أيام مسابقة التزلج العالمية في منطقة "كران مونتانا " السويسرية ظهيرة يوم الرابع من ديسمبر عام 2017 جراء تجاسر أشعة الشمس الساطعة المفاجئة والساخطة على غير عادتها عن باقي  تلك الأيام الشتوية المعتمة والغائمة طوال الوقت الذي كانت تنغمر بها  تلك المنطقة المحاطة بجبال شاهقة، وحدث أن تسببّ الحادث ما تسبّب من حالات هلع ومخاوف على نفوس المتسابقين وعموم الحاضرين والقائمين على المسابقة ومتابعيها، فيما جاء  هذا الانهيار بمثابة إنقاذ  لـ "مراثي الرضواني" من رحلة منهكة، مدمّرة لم تُكتب نهايتها بعد عند هذا الحد .

 أفشل الانهيار الثلجي عناءات ومعاناة "مراثي الرضواني" وأسهم، بقدرة قادر، في إنفاذها من براثن تلك الرحلة وهي تنوء بحمل طفلين توأمين لم يتجاوزا الخمسة أعوام من عمريهما "كوكي و ذوكي" بعد إعدام والدهما "أمجد" بائع الكاسيتات على يد مجرمي داعش إبان فترة احتلالهم للموصل، و ثم مقتل أمهم "خديجة" بطريقة بشعة وتعليق صورها ونشرها عبر وسائل الإعلام كواحدة من شواهد ما جرى من جرائم على أرض أم الربيعين قبل أن تتحوّل إلى أم الرعبين .

 سلسلة نكبات ونوادر مآزق وفخاخ مكائد مصيريّة كابوسية، أكثر من مفزعة وقاسية رافقت رحلة "مراثي" اللائذة  بالموصل هرباً - باديء الأمر- من مجريات وتداعيات أحداث ما حدث في بغداد رحم ولادتها ونشأتها وعملها كمحامية ناحجة، بغداد دار السلام التي لم تسلم من جور وعنجهية ظلم الفوضى الخلّاقة التي أتى بها الاحتلال الأمريكي البغيض بمختلف قذارة وسائله وخسة أساليبه، وما نضح منها من طحالب وأشنات وأمراض نفسية - انتقامية، لم يسلم منها أحد .

 

 

هرم السرد مقلوباً

----------------------

 

تماثل حدث انهيار الجليد من على كتف الجبل مدخلاً لاستهلال لا يخلو من مكر إبداعي بارع، عزّز من شّدة التأثير وعمّق من نباهة الإنتباه، والذي منه وعلى منواله سارت وتساوقت مجمل أحداث ومكونات الرواية وفق مقدّرات رسم ملامح  الثيمة الرئيسة والأساسية لها، وما شهدت البطلة المنكوبة من مصاعب ومتاعب وجملة كوارث ونكبات ومخاطر أهوال متواصلة ومتراكمة واحدة تلي أخرى متحملة "مراثي" حمل أنين نوائبها ومعاناة واقع حياتها في بغداد، أي قبل هروب "مراثي" الاضطراري لها تفاديا لمطاردات ومساعي عمها الدنيء القذر "عباس الرضواني" بتاريخه الحافل بكل الموبقات والانحرافات والانتهاكات، والذي شاء له أن يواكب ويساير موجات ما طفح على سطح الواقع العراقي بعد عام الاحتلال "2003"، طامحاً بقتل "مراثي" كما فعل مع شقيقتها "سُبل" وطامعاً وبدواعي إصرارٍ سافر سافل، بالاستحواذ الغاشم على كامل ملكية ما تبقى من بيت وبستان ميراث عائلة الرضواني، تلك العائلة البغدادية العريقة التي تشظى أفرادها مِزقاً كل بحسب جهته ومراد مصيره المحتوم، فكانت الموصل جهة "مراثي" حتى تدميرها بالكامل من قبل أشرار داعش بعد تحريرها، والتي ما كادت تجد موطيء قدم وسواكن للروح، حتى حصل ما حصل، وما برحت أن لّبت نداءات قراراتها باللجوء إلى أية دولة أوروبية بمعية التوأمين اليتيمين من الأم والأب، على متن زورق معدني، ويكون مصيرهم بيد مهرّب تركي يدعى "نزام"، وليزيد الطين بلة ناكثاً بوعود إيصالهم وسط عذاب ونوازع وتخرصات نصائح وأكاذيب وتهديد بالاغتصاب، لتتجه الطريدة صوب مجاهيل لا تؤدي إلا لأخرى، وتشاء أن تكلل الاخيرة، دون إرادة أو  مجرد علم، بالوصول إلى سويسرا - تحديدا منطقة "كران مونتانا" ـ مع حادثة الانهيار إياها، التي قذفت بالتوأمين ضمن كتل التلج المتدحرجة نحو أسفل الوادي ويتمّ انقاذهما ونقلهما إلى بيت إحدى عوائل المنطقة، فيما يبقى مصير "مراثي" مجهولا  وفق متممات سياقات وأنساق الحالة الدرامية والتفاعلية المدهشة مع بواقي أحداث هذه الرواية الإنسانيّة... الوطنية الضخمة .

 

 

 مخاتلات الخيال

----------------

 

  تكمن الكثير من مساعي وآفاق قدرة هذا النوع من السرد المتقن والمدروس والمدوسوس بطيات أواصر عناية وعيٍ عال، مشفوعٍ بمهارات ترميز وسمات تأويل وافر المعنى راسخ العمق، فيما يخص ويدنو مما حصل لعائلة الرضواني. لهو امتحان وتطويع عام لما قد حصل في عموم البلاد إبان تلك السنوات بأيامها وحوادثها القاسية والصعبة جدا، على  اعتبار أن بغداد هي قلب العراق.

تماهى السرد في الكثير والمثير مع عوالم الخيال بفضاءاته الرحبة والمفتوحة، وحتى في طريقة بناء الشخصيات وتحديد الأمكنة، مما أعطى لهذه الرواية بأجوائها ومناهل وجودها العام، دفقات من تحليات  تخيلية واعية وموضوعية  تكاد تكون مقنعة لوفرة ما فيها من عوامل ومتعة تصورات برعت تتفانى بغية التخفيف من وطأة ووخامة أثقال الأحزان التي تماطرت على أراضي وبقاع أحداث الرواية، إذ يندر أن تظفر على مقدرات وعي تناولي - تداولي يتوق ليتسق مع تجليات مقومات سرد - إبداعي محكوم بشوامخ إتقان ولوامع إقناع، لا تخشى فيه أو تحذر من مغبة التعامل مع مرتجفات الخيال والتعاطي مع سوانح تحلقاته وخوارج انبثاقاته حتى في أشدّ تماسسات ارتهانه لشروط الواقع المحض، هل ثمة أبلغ من تساؤل "ماركيز" وهو يشهق مؤكداً لسائله من  أحد الصحفيين  صراحة قوله: " قل لي ما الذي لا يستطيع أن يفعله الخيال" ؟!، وفي اعتراف آخر يفصح "غابريل" عنه برباطة جأش ودواعي إعتزاز مضيفا "نحن نُهييء الواقع.. لكي نجعل منه أسطورة".

أشعر ببعضٍ وفيرٍ مما جرى من خلق شواخص وعوالم رواية ذكرى محمد نادر "القرن.. بعد إكتماله" بهذا النسق وبراعة الزعم وأحقية الاتجاه.

  ------------------------------------------------------------------------

 

*  الرواية صادرة بتعاون نشر وتوزيع ما بين دار الصحيفة العربية ببغداد ودار العراب بدمشق أواخر 2022 .

المشـاهدات 548   تاريخ الإضافـة 08/04/2023   رقم المحتوى 18514
أضف تقييـم