‫هناك مدن مكبلة بقيود ذهبية في تاريخها ، وريثة حضارة - امبراطورية ، وتاريخ  متخم  من الأفكار والعلماء والشعراء والمفكرين والقادة العظام.  الذين نسجوا  مجد صورتها ، لتكون شعلة متوقدة في وهج التاريخ الإنساني ، تصطف بقوة جنب  الحضارات المبدعة ، وتقف عند تخوم المدن الكبرى وتعلو في ارثها المعماري والثقافي والمعرفي ،

لاشك ان مدينة مثل بغداد بكل ما أسهمت فيه من تحضر ، شع على العالم وسادت قرون عاصمة للخلافة العباسية الإمبراطورية،  التي يخاطب زعيمها الغيوم  ( أين ما تمطرين فأن خراجك لي ) ! ولسخرية قدر هذه المدينة ، الإشكالية الكبرى في التاريخ،  يموت قادتها خارج اسوارها ويدفنون في المنافي ، رغم ولعهم و محبتهم لها بل عشقهم لحياتها ومباهجها كما حدث للرشيد ، ويقتل عشرات الزعماء والمواطنين فيها بشتى الوسائل،  جراء الغزوات والحروب الطاحنة ، التي شنتها أمم قوية غازية عليها ، ما كانت تتوانى عن التمثيل فيها ، كي يدخلوا التاريخ من أبشع أبوابه كما فعل المغول والتتار والخروف الأبيض والأسود ،وسواهم من  المسميات الشائنة ،

لكن بغداد اكثر من مدينة واعز من عاصمة ، فهي جامعة للوعي التنويري ومسرح مفتوح للأمم والشعوب ، حتى بنى احد قادتها اماكن للاغتسال والتطهر قبل دخولها،  من خلال ثلاثة الاف حمام عام ، ومنح الزوار صنادل يمشون عليها كي لا يلوثوا شوارعها بأقدامهم  التي اجتازت الصحاري  قبل الوصول اليها ،

نعم هي اسطورة التاريخ البشري ، ياتي الناس اليها علهم يروا بقايا أبوابها ومعالمها ومدارسها الفقهية ، فحين تكون من ابنائها او قدر لك ان تعيش فيها عليك ان تضع في حساباتك  انك تدوس في كل شارع فيها على اثر  من مخلفات مجد حضارة ، او قبر ولي او مفكر كان هنا ، فتمتلئ المدينة ببقايا امجاد اقوام وأفراد ولدو ا فيها او عاشوا في كنفها ، وقضوا وطرأ ً من حياتهم في اروع مدن الشرق وتنعموا بخيراتها ، ونهلوا علما من مدارسها و معاهدها وكلياتها ،،فظلت هذه المدينة المُجرّحة من كل أكتارها   تعطي دون مقابل وتتلقى جحود الوافدين اليها،  وتأمرهم عليها ، هم يهابوها ولا يحبوها ، فشتان ما بين الوجل والدجل مابين المهابة والإثابة ، هي تدرك بخبرتها مغزى عيون خمارتها المجافين ومعنى انغمار المحابين ، وتعلم انهم صدفة في تاريخها سرعان ما تمضي كما مضى غيرهم ، وتعود لتتمثلهم وتلقي بهم خارج اسوارها ،لن تستسيغ الاغبياء ولا تحب الادعياء ولا تحابي التعساء، بغداد مدينة اكبر من وعي جمهورها ومن ثارات مبغضيها وأقدم من تاريخ الأقوام التي لفظتهم الأعوام ، يوم كان الناس نيام ، لاتبالي بالحمقى واللئام ،

فكم كبير عليك يا بغداد ان يغادرك اهلوك دون وداع ، لتعيشي رحلة اخرى في الضياع !؟.