يومانِ حافلانِ بالعطاء الإبداعي المتوهج بمشاركة عربيّة , تعيد لأذهاننا استذكار المهرجانات الكبرى التي عرفت بغداد بها , والتي كانت تضمّ مثقفين ومبدعين عرباً مع زملائهم من مبدعي الوطن , ولكن هذه المرّة جاء الاحتفال باختيار رمز من رموز الحداثة الشعرية العربية وهي العراقيّة نازك الملائكة , التي كان لها الدور المتميز في كسر القالب التقليدي للقصيدة العربية مع الرائدين الخالدين بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي , مع عدد آخر من الشعراء المجايلين لهم , ولكنّ حركة التجديد ارتبطت بشكل أعمق بهذا الثلاثي العراقيّ الذي حقق نهضة ثقافية اقترنت بها تحوّلات عديدة في الفكر والأدب ..

والاحتفال بمئوية نازك الملائكة بهذه التظاهرة الثقافية التي احتضنتها بغداد يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من الشهر الحالي , هو احتفال حقيقي بالقيم الثقافية التي شكلت النسيج الحقيقي للهوية الثقافية الوطنية , وهو استشراف لأمل يحتاجه العراق في هذا الظرف من حياته , لأنه يمثّل توجّهاً مهماً من الدولة بأهم مفصل من مفاصل بناء الانسان , وهو الثقافة , التي عرفت بخصبها وحيويتها في العراق من خلال المتغيرات الثقافية والتطوّر المؤشر من قبل المتخصصين بفنون الأدب والمعرفة والفكر , وهذا الأمر لا أتحدث به جزافاً , بل هناك وقائع وإحصائيات وظواهر تؤكد ما ذهبت إليه , وربما يعرف المثقفون العرب قبل غيرهم القيمة الحقيقية للثقافة العراقية .

نازك الملائكة , الشاعرة , والمثقفة , والمنطلقة من أسرة متحضرة تعشق الشعر والموسيقى والحياة المدنية ,ولدت في بغداد في 23 من آب عام 1923 وتقول سيرتها الذاتية أنها تخرجت من دار المعلمين العالية عام 1944وهي  من أم شاعرةً وأب كاتب, دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت من قسم الموسيقى عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن-ماديسون في أمريكا. وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت, عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية وتوفيت بها في 20 يونيو 2007 عن عمر ناهز 83 عامًا, بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة., ويعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة هي أول من كتبت الشعر الحر في عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي. وقد بدأت الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جداً للشاعر بدر شاكر السياب..

إذن فهي امرأة لها مكانتها في تاريخ العراق , واستذكارها المهيب واجب وطني , حسنا فعلت الدولة حين خصصت لها هذه المئوية , التي نتمنى أن تشمل رموزاً أخرى لها ذات المكانة في حياتنا الثقافية , ولدينا عدد كبير من هذه الرموز في مجالات المعرفة والثقافة كافة , وكلهم نفخر باستذكارهم , وأظن أن المستشار الثقافي للسيد رئيس الوزراء الشاعر الدكتور عارف الساعدي , على معرفة دقيقة بهذه الرموز , وهو الذي تصدّى لهذه الفعالية كونه رئيساً لمهرجانها , ونحن نبارك له هذه الخطوة المهمة الموفقة التي تحمل دلالات عميقة , ونشدُّ على يديه وهو يؤسس لتقاليد من الوفاء للقيم والرموز , كما فعل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق , وهو يستحدث يوماً للأديب العراقي , ويكرّم باقة عزيزة من رموز الأدب والإبداع , وينشئ متحفاً عامراً ضمّ مقتنيات ومخطوطات وحاجيات شخصية أبهرت المتابعين ..

لا أريد هنا أن أقلل أهمية مهرجان مئوية نازك الملائكة , بعرض ملاحظات من المؤكد أنه قد تمّ تأشيرها من قبل المعنيين والمراقبين , فلا كمال إلا لله سبحانه وتعالى , ولا يسعني وأنا في مهجري مطلّة على الوطن من خلال متابعتي الدائمة لكل نشاطاته الثقافية والإنسانية ولكل هموم أبناء شعبي , إلا أن أبارك وأهنئ الوطن بمبدعيه الذين يصنعون الجمال والأمل  , وإلى مقبل جميل نسعد به إن شاء الله .