الإثنين 2024/5/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
الوجه الآخر للمدن الضائعة توظيف الميتاقص التأريخي في رواية (لبابة السر)
الوجه الآخر للمدن الضائعة توظيف الميتاقص التأريخي في رواية (لبابة السر)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. زينه إبراهيم الخرسان

دراسات ثقافية

   تتاتى أهمية المكان في أي مدونة سردية من نوع العلاقة بين انتماء الشخصيات وثباتها او تقاطعها مع نوع المرجعيات التي يستمد منها الروائي مكانه الفني بشكل عام فالمكان يستطيع منح (( الكينونة وتجسدها وانقطاعها عن الذهنية البحتة ومطلقية التجريد فهو المتلازم الأهم مع فكرة الوجود فلا وجود خارج المكان فالكون مكان مطلق تعجز عن حدوده المقاييس والأزمنة)) (قضايا المكان الروائي صلاح صالح: 11).

ويبدو واضحا ان المكان الفني يمتلك نوعا من الخصوصية التي تجعله في أحيان كثيرة يبتعد عن المكان الواقعي بما يمنحه الروائي من زخم ويحملّه من دلالات لغرض إبراز معماره الفني، ففي رواية (لبابة السر) الصادرة عن (دار الشؤون الثقافية- بغداد 2020) لشوقي كريم يأخذ المكان ثقلا مركزيًا لايصال فكرة الرواية الأساسية المتعلقة بالمدينة بين زمنين مختلفين يجتمعان في لوحة واحدة فثمة علاقة انفصال وعلاقة امتداد تجمع بينهما بسبب الإتكاء على حمولة التأريخ والإفادة من معطيات (ما وراء القص التأريخي) الذي يستدعي التأريخ لغرض مساءلته ومحاكمته أحيانًا واعادة تشكيله على وفق رؤى متخيلة لإبراز الأصوات التي غيبها هذا التأريخ .

  تقوم الرواية على العودة الى زمن انهيار الدولة البابلية لتتخذ منه منطلقًا تطلّ منه على فكرة الانهيارات المتكررة التي تواجه هذه الأرض عبر تأريخها ويختار الروائي منح شخصيته الرئيسة المتماهية مع اسمه (شوقيا) مهمة كتابة الرُّقُم الطينية (المخطوط) وتنظيمها والبحث والكتابة لاكتشاف شكل من أشكال علاقتنا بالماضي ومن ثم فهمنا للحاضر فلا يمكن أن يكون التأريخ الإ رحلة لآثاري ومدون شغوف باكتشاف اللحظات المغيبة من تأريخنا، ومن ثم تأتي مهمة التأريخ ليلبس ما تبعثر على جسد انسان وهو هنا (العراقي) الذي بعثرته ذاكرة الماضي العنيف الذي عصف به.

     ترد العلاقة بينهما في اللحظة التي يقع تحت تأثيرها (شوقيا) بسبب انهيار بابل فيلجأ  إلى التدوين كآخر وسائل مقاومة انهيار المدينة كما يقول الحكيم الذي يدور بينه وبين الرّقام (شوقيا) حوار في الرقيم السادس :

"- نبدأ بماذا ... والقول لا جدوى منه؟

القول فرس الأفعال.. نبدأ بالتحدث عن بابل التي نعرف والتي نحب..عن بابل التي تضم بين جوانحها أولادنا ونساءنا والحبيبات، نتحدث عن سر الانتماء.. بعدها نجد الزرع ينمو ويكبر عندما يحين وقت الحصاد" (الرواية: 77).

    تمتاز هذه المحاورة بأنها ترسم خارطة لطريق الكتابة التي ينبغي على الرقام السير عليها لينقذ تأريخ المدينة من ما سيكتب عنها ، لذلك تكون المكاشفة واضحة فيما يتعلق باسباب انهيارها وفي مقدمتها التمسك بأدوار الكهانة التي ضيعت هذا البلد (بابل الماضي / بابل الحاضر) يقول : "- هؤلاء الذين يتعلقون بأذيال الكهنة ... ويعتقدون أن لا خلاص دونما نجدة مردوك!!

الوهم وباطل الكهنة لا يمكن أن يستمر طويلا .. عقول هؤلاء أتعبها زيف التراتيل ، والغوص في ماضي الأرباب وأكاذيب ما حققوا" (الرواية: 77).

    لذلك هو يرفض الكهنة لانهم يبيعون الوهم والاتكاء على الوهم ليس حقيقة أو طريق، الطريق الحقيقي هو بالاتكاء على الانسان وهو يقوم بدور الكتابة ، فالكتابة وتحويل مأساتنا إلى موضوع هو ما يجعلنا نقف عند عتبة التأمل .

    جاءت الرواية على شكل رُقُم يتعارض تسلسل الرقيم كتابة عن رقم الرقيم المثبت بإزائه وبنظرة سريعة تتألف الرواية من (17) رقيما مثبتة على شكل ارقام متسلسلة بينما تتعارض الكتابة فنجد ان (الرقيم العاشر) و(الرقيم الخامس عشر) ليس لهما وجود في الرواية، يبدأ التسلسل يأخذ منحى مختلفا ابتداء من (الرقيم الثالث) إذ يختار له التسلسل الرابع ومن ثم يأخذ (الرقم 4) عنوان (الرقيم السابع) ويأخذ (الرقم 5) عنوان (الرقيم السادس)، ونجد مثلا (الرقيم الرابع) يبدأ في صفحة (14) من الرواية بينما يرد (الرقيم الخامس) في (ص 238)، وهكذا نجد انفسنا أمام لعبة الأرقام المختلفة وفي ظل ذلك يختفي (الرقيم العاشر والخامس عشر) لنجد رُقُماً مختلفة يحددها بـ(رقيم التدوين، ورقيم الممرات، والرقيم ن ..الخ)، يعتمد المخطوط على الرُّقُم الطينية وعلى الرواية الشفوية وهذه المادة تتيح توافر اصوات متعددة يمكن ان تتصارع وتختلف وتأتلف فيما بينها مما يمنح شكلا من اشكال الحوارية داخل النص الروائي. فهناك صوت (نودعس) وصوت الحكيم (سن ما غرض) وصوت (شوقيا) وفي الاسماء لعبة ايضا يعتمدها الروائي إذ يعمد إلى قلبها فنودعس يمكن أن تقرأ على انها قلب لاسم (سعدون) وكذلك ( سن ما غرض) يمكن أن تقرأ بأنها قلب لاسم (ضرغام).

    تبدأ الرواية بتساؤل عن عرش (مردوخ) الذي اهتز ولا تتوقف الحركة بعد ذلك إذ أنَّ البعد الفلسفي الذي يقف وراء هذا العمل الروائي يكمن في الإيمان بالحركة ونبذ السكون؛ لذا جاءت متعبة للقارئ وهي تستمر بنفس شعري كما تعودنا على أسلوب الكاتب في رواياته السابقة ، فنراه يقول على لسان شوقيا :

"لا أريد حرفا مهما كان مشرقا وذا وقعٍ إن هو علمني كيف أسلك درب الاستقرار الأجمل والأجل معلمي أن لا نستقر حتى وان احسّت أعماقنا بالإستقرار، مسكين هو الانسان الذي يستقر.. مسكين من يلهيه الاستقرار عن متابعة الحركة، لا أريد معلمي أن أظل مثل طين البرك" (الرواية 31).

    إن تقنية (الميتا سرد) أو (الميتاقص) هي تقنية أسلوبية تقوم على فكرة التداخل النصوصي،  وتحقيق  الوظيفة الميتالغوية، اذ تتمثل فيها الكتابة عبر تحقيق شروط تربط المنظور السردي الى زوايا متعددة، والى تبئيرات سردية مختلفة المنظور، تلك التي  ينكسر في ضوئها التوالي التعاقبي، اوالسياقية، مقابل تكريس فكرة التمركز الذاتي في الكتابة، فالقاص أو الروائي يعمد الى كسر الايهام السردي، والخطّية التتابعية لتنامي الحكي او الاحداث في البنية السردية، من خلال رؤيته للبنيات المتداخلة والمتوازية في  النص الروائي او القصصي، بدءا من استدعاء وظائفية التقنية (البولوفونية) في تعددية الاصوات، وفي  تشظية الراوي او الحكواتي الى رواة داخ

رواة داخليين، وانتهاء بتوظيف الوثيقة التاريخية أو الخطاب السحري أو الأسطوري، أو حتى استدعاء أصوات أو أقنعة الشخصيات التاريخية او المثيولوجية، او الشفرة المولدة لمستويات متعددة ومتنوعة من  المعاني والدلالات والاصوات، الاحالة الى نصوص الاخرين، النص يتأمل طبيعته الخاصة وعلائقه مع نصوص مجاورة تلازمه، وهي طريقة مناسبة في النص وظفها الروائي لتتوالد المعرفة على شكل انثيال وتدفق منح النص ثراءً لغوياً ودلالياً جعل هذه الرواية من الروايات المركبة التي تحتاج إلى قراءات متعددة للإحاطة بآفاقها التي عكست نضج تجربة الروائي وميله لمواصلة التجريب كما يرد على لسان الحكيم بشأن الكتابة : "- لا بد من فعل عارم وطوفان يغلب ما نقشه السابقون ليكون ابهارا وتقديسا" (الرواية 33).

    فمن ذلك نفهم أهمية لجوء الروائي إلى تقنيات (الميتاقص التأريخي) واختياره لأماكن الكتابة غير المشهورة وطرح الموضوعات الجديدة لأنَّ هاجس البحث والحركة والاكتشاف لاسيما عند النهايات وبعيدا عن المألوف هو ما يشغله :

"-تلك هي محنتي ..محنتي أمام رُقُم الطين الفارغة هذه وأمام نفسي وأمامك لا اريد كتابة اشياء يعرفها الناس من أزل الأعوام .. أريد لهم أشياء جديدة ، معاني تعطي لبابل سر وجودها الآخر. لم نعيد ما كتبه الاخرون .. كان جلجامش ومضى (...) ماذا عن الناس ، ماذا عن أحلامهم وأحزانهم والآمال .. ماذا عن الحب والكراهيات (...) محنتي معلمي أن اكتب كل هذا وأشياء كثيرة غيره" (الرواية 32-33)، عبر هذا النص نلحظ أنَّ الرواية تريد أن تعالج محنة الإنسان منذ الأزل حتى العصر الحاضر، فالتاريخ كتب لتخليد الملوك، فأين الشعوب؟ تلك هي المحنة .

 

المشـاهدات 201   تاريخ الإضافـة 30/12/2023   رقم المحتوى 36471
أضف تقييـم