الأحد 2024/4/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
قراءة نقدية تطبيقية في المجموعة الشعرية "قليل من الناي" للشاعر العراقي جبو بهنام بابا تحت عنوان: رموز وإشارات التدوين للتعبير شعرا عن واقع مكلوم.
قراءة نقدية تطبيقية في المجموعة الشعرية "قليل من الناي" للشاعر العراقي جبو بهنام بابا تحت عنوان: رموز وإشارات التدوين للتعبير شعرا عن واقع مكلوم.
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. خالد بوزيان موساوي/ ناقد مغربي

1 ـ بطاقة تعريف موجزة: "قليل من النّاي" مجموعة شعرية من توقيع الأديب العراقي جبو بهنام بابا. صدرالكتاب وهو من الحجم المتوسط (25 نصا) في طبعته الأولى 2022 عن دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع/ العراق. قام بتقديمه د. حسن عبد الراضي/ بغداد. الغلاف من تصميم غازي التلاني، والصفحة الأخيرة للشاعرة سناء جرير.

2 ـ تيمات وعلامات:

بلغة قاب قوسين أو تكاد بين الإيحاء بالانزياح البلاغي، والتصريح بالإشارة المُشَفَّرَة عبر مفردات (إشارات/ علامات/ تيمات؛ حسب مرجعيات النظريات النقدية الأدبية الحديثة ) يكشف لنا الشاعر في هذا المقطع (من النص بعنوان "بياضك طلسم ولك النبض") خط تحريره في الكتابة الشعرية ، كما يختزل أهم تيمات هذه المجموعة الشعرية؛ نقرأ:

" صوت كغفوة المواويل

يترامى من زهو الرموز...

ضاعت إشارات التدوين

بين البياض ورؤى الزمان

وفراغ رُسِمَ بالزعفران

وقت الهجير...

دَمُنا سيتهى بين نخيل ودخّان

يخفي صمت العبق

كصمغ اللبان

وكنسيم الضوء".

مقطع غني يحتوي في طياته على أهم " التّيمات" التي تتكرَّر بتمظهرات عِدّة عبر ربوع هذه المجموعة الشعرية، ونعني:

ـ "رموز" ("مِنْ زهو الرموز") وهو تلميح من الشاعر كونه اختارالرمزية التجريدية في خطه التحريري لكتابة الشعر. (وهي تيّار ابداعي اعتمد على استخدام ألفاظ للإشارة إلى فكرة ما، ويُشتَرَط وجود رابط بين الرّمز والمرموز إليه). أسلوب في الكتابة الابداعية يعتمد على "فنّ البلاغة" (كما تداوله رولان بارت، والذي يعادل عند ياكوبسون مصطلح "الشِّعرية"، وعند ريفاتير مصطلح "الأدبية)؛ وقد شبّه الشاعر هذا الفنّ (فنّ البلاغة) بِ "كيمياء السّحر" ؛ وهوعلم عرفه العرب قديما يحوِّل المعادن الرخيصة إلى ذهب؛ ويستعمل مجازا عند بعض الشعراء كمرادف للبلاغة التي تصنع من مفردات عادية أعمالا فنية عظيمة؛ ومن بين الشعراء الذين استعملوا هذه العبارة "كيمياء السّحر" الشاعر الفرنسي (القرن 19) أرتير رامبو (Alchémie du verbe/Arthur Rimbaud)؛ نقرأ ذلك جليا في هذا المقطع من النص بعنوان "صحوة قبة تلبسني":

" واشجار الحزن الدافئ

غطت سرائرها

بفن البلاغة

وكيمياء السحر..."

وقد أطلق الشاعر على هذه الألفاظ/ الرُّموز اسم "إشارات التدوين".

ـ إشارات التدوين: ويقصد بها الحقول الدّلالية في مجموع نصوص هذه المجموعة الشعرية؛ ومفردة "إشارات" في هذا السيّاق تُحيل على ما يُصطلح عليه عند السيميائيين ب "علامات"، كما عند الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بيرس؛ ومنها الألوان ورمزيتها (البياض في هذا المقطع)؛ والرؤى/ الأحلام (نبوءات الشاعر)؛ والفراغ (إحالة على ثنائية الوجود والعدم في عالم يسوده عدم الاستقرار وغياب الأمن والسكينة)؛ والأشجار (على رأسها النخيل ـ الشجرة المباركة / رمز الحياة ـ ويقصد بها الشاعر مجازا بغداد/ العراق)؛ والدخان (نسبة للحرائق التي يتسبّب فيها الإنسان أيام الحرب والسّلم والفتن والصراعات السياسية والطائفيىة والمذهبية والعرقية... )؛ وثنائية الصّوت والصمت (وكلاهما وسائل تعبير عن مواقف الشاعر بدءا من العنوان الرئيس للمجموعة "قليل من الناي")؛ وثنائية الضوء والعتمة التي تحيل على دلالات مُسْتَقاة من الفلسفة المانوية (الخير/ الشر ـ الرّب/ الشيطان ـ الجنة/ النار إلخ.).

3 ـ علامات متزاوية ومتضادة:

وتتضح صورة هذه العلامات الثنائية المتزاوية والمتضادة أكثر (صوت/ صمت ـ نخيل/ دخان ـ بناء/ خراب ـ الضوء/ العتمة ـ الجنة/ النّار...) في النص بعنوان "وردة الضفائر الحمر" حيث نقرأ هذا المقطع:

"وهذا الزمان

سحر البهاء

فاحتفظوا به بعيدا عن الضوضاء

فموسيقى موزارت يزينها الورد

والطواويس والببغاوات

وبعض طيور الجنة

وطائر العبق

وورد روزا

محاطة بأعشاش البلابل

تضحك فيها الزغاريد والوشوشات

ومواويل نُسّاك المغارات... (...)

فالقمر اللازوردي مفتون

بظلال الصنوبر

أخفى وجهه

في سماء لا تورق فاكهة وثمرا

في فردوس آدم...

قرب ساقية

من ماء الجمر...".

يتساكن في مُخَيِّلَة ملكوت الشاعر عالمين متناقضين متصارعين:

أ ـ عالم الصوت ("بعيدا عن الضوضاء")؛ وهو موسيقى تستلهم نوتاتها من مخلوقات وعناصر الطبيعة العذراء العفوية النقية والمتناغمة من طيور وورود ومواويل وزغاريد؛ رمز إليه الشاعر بموسيقى الموسيقار النمساوي العالمي "موزارت" (Mozart)؛ عالم يشبه الجنة.

ب ـ وعالم الصمت (في رؤيا متشائمة) مقرون ب " سماء لا تورق فاكهة ولا ثمرا، في فردوس آدم...قرب ساقية من ماء الجمر". ليصبح هذا النوع من الصمت مرادفا للجحيم. على العكس تماما من العالم الذي ينصح به الشاعر: " وهذا الزمان سحر البهاء؛ فاحتفظوا به بعيدا عن الضوضاء"؛ والمقصود ربما ب "الضوضاء" في هذا السياق "الفوضى" التي يسببها أبناء آدم من حرائق، وحروب، ودمار... وكان الشاعر داعية لعالم أقرب إلى الطبيعة المتناغمة المسالمة؛ عالم يشبه "المدينة الفاضلة" الأفلاطونية/ عالم الأحلام.

ومن هنا نستنتج اعتماد الشاعر على الإيحاء بالرموز لا التصريح؛ الشيء الذي يجعل كتابته أقرب  إلى الرّسم، أي إلى التشكيل الفني التجريدي، منها للبوح الوجداني التقليدي المُتعارف عليه عند الشعراء الرومانسيين والواقعيين. نقرأ في السايق من النص "ورد الضفائر الحمر" هذا المقطع:

" أنت قلب مرسوم بالبياض

ويدان زرقاوان

أطول من نبع المسافات

فكل الجزر تسبق ساحل عينيك

إلى مرافئ الصمت..."

4 ـ  غموض العلامات ("إشارات التدوين") ومأزق الأسئلة:

كلّما كان الواقع المعيش بسيطا وبنياته واضحة ومتجانسة ومتناغمة، يقوم الفن بجميع أنواعه وفروعه  (ومنها الشعر طبعا) بمحاكاته وِفقَ مقاربة "تماثُليّة" أقرب إلى "المُطابقة"، لكن كلّما عجز الإنسان عامة والفنان ـ الشاعر في سياقنا هنا ـ عن فهم ما يدور من حوله ولا يستسيغه عقله، يسود الغموض ومنطق العبث؛ فينتقل السؤال الفلسفي التقليدي من محطات البحث عن أجوبة لفهم أسرار الكون والكينونة، إلى علامات استفهام ذات طبيعة إبستمولوجية تروم إعادة النظر في المُسَلَمات والمعتقدات والقناعات السابقة. لذا نجد أنفسنا كقراء أمام مجموعة شعرية "قليل من الناي" عبارة عن استعارة كبرى لاستفهام استنكاري لا يبحث بالضرورة عن أجوبة آنية مستوفية تستجيب لآفاق انتظارالشاعر. نكتفي على سبيل المثال لا الحصر (لضيق الحيِّز) بقراءة مقطعين استفهاميين:

ـ المقطع 1: ـ " ما بين الماء وميزان الكلمات...

متى تحِنّ الغيمة؟

حين يشتغل تاريخ الدوران

والمياه تبلع ميناء محنتها..." (نص 2 "شموس من القصدير تطلع في الصدى").

المقطع 2: ـ "هل تعلم؟

ان للحرف أسرار الألفة

يراقب ضوء الصباح

من الذكرى (...)

في سؤال الوقت...

أيّ توجّس ينحدر لأجل النشيد

المتكلِّم في أجسادنا؟" (نص 3 "أمنح الوشم لذاكرة البيدر").

نلاحظ في كلا المقطعين ارتباط فعل الكتابة ("ميزان الكلمات" ـ  "للحرف أسرار الألفة" ـ "النشيد المتكلم في أجسادنا") بسؤال الشاعرالذي يصف حالة التشظي زمنيا ومكانيا (تاريخيا وجغرافيا)،ويحلم من خلال رؤاه بالأمجاد التي انزوت في أركان الغياب، لكن ليس كشاعر نوستالجيا الأطلال، بل كمتنبّئ بغد لا بد أجمل. نظرة متشائلة (مزيج من التشاؤم المُوَلِّدِ للتفاؤل) يختزلها الشاعر عبر دلالات العنوان الرئيس للمجموعة " قليل من النّاي".

عنوان يذكرنا بالأسطورة الإغريقية "عازف الناي" الذي قتلته الآلهة، وأعاده للحياة من جديد "زيوس" كبير الآلهة على شكل وردة تشبه ورود الأمل المتناثرة عبر ربوع نصوص هذه المجموعة الشعرية.

 

المشـاهدات 133   تاريخ الإضافـة 22/03/2024   رقم المحتوى 42342
أضف تقييـم