الإثنين 2024/4/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 25.95 مئويـة
قراءة تفكيكية في ديوان لا وارث لي، لوديع شامخ
قراءة تفكيكية في ديوان لا وارث لي، لوديع شامخ
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

   د. نجمة خليل حبيب

                                                                                 

والتفكيكية مدرسة نقدية تقوم على مجموعة من المبادئ أهمها الاختلافDifference  ، والاختلاف هو الإزاحة، التي تصبح من خلالها اللغة، أو الشيفرة اللغوية، نظامًا/ مرجعًا مهمًا يتميز بتاريخية خاصة به وتجعله فريدًا عن باقي الاختلافات ويقوم، حسب تأويل المفكرين المعاصرين، على تعارض الدلالات والعلامات في النص، تشير إلى أمور مختلفة حيث يظهر النص كأنه شفرة، يجب على القارئ الناقد تفكيكها .

* * * * *

 

لا "وارث لي" هو الديوان السابع  للشاعر وديع شامخ  سبقته ستة هي: 

- قل ولا تقل  2017    

- مصور شمسي 2015

          - مراتب الوهم 2010

          - ما يقوله التاج للهدهد 2008

          - دفتر الماء 2000 

          - سائرا بتمائمي صوب العرش 1995

ولا تقتصر تجربة شامخ الإبداعية على الشعر فقط، بل تتعداه إلى مختلف الميادين المعرفية. صدر له حتى حينه: "الإمبراطورية العثمانية من التأسيس إلى السقوط (2003)، وكتاب "تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة في قرطبة (2005)، إضافة إلى العديد من المقالات والدراسات في حقلي السياسة والنقد الأدبي المنشورة في صحف ودوريات عراقية ومواقع الالكترونية. 

 وإذ نبدأ فبالعنوان كونه يمارس غواية وإغراء للمتلقي، والإشارة السيميائية الأولى في الكتاب يتصدره، ويبث خيوطه وإشعاعاته فيه "ويشرف عليه كما لو أنه يضئ العتمات و يجليها" .  وهو هنا جملة إسمية مؤلفة من لا النافية للجنس واسمها وخبرها. ولا النافية للجنس، كما هو معلوم، هي أداة تستخدم لنفي الحكم نفياً عاماً عن جميع أفراد الجنس، وبذلك يكون الشاعر قد قطع كل صلة له بالمجتمع، الروابط العائلية منه على وجه الخصوص. وآمن، على طريقة إريك فروم، بذاته كوحدة مستقلة قادرة على إدراك العالم بالفكر الذي ينبع من الداخل نتيجة نشاط خاص غير مستمد من الخارج، أي أن يعيش أفكاره الأصيلة، وليس المقصود بالأصالة هنا، الجدة التي لم يفكر بها أحد من قبل، بل هي تلك التي تصدر عن الفرد نتيجة نشاط داخلي  حيث يتجاوز العقل الجانب النفعي بهدف ربط الإنسان بالأشياء عن طريق فهمها والنفاذ إلى جوهرها ومعانيها العميقة. وفي مرور سريع على عناوين القصائد يتضح لنا أن هذا التغريب المجتمعي يعم معظمها.

يتألف ديوان لا وارث لي من ستة وتسعين قصيدة تتراوح بين المناجاة الداخلية- مرايا الذات كما في: "يوميات شاعر متواضع جدا"، "أوقظ الليل وأطعمه أرقي"، "بعض من طبائعي"، تأملات: "ندم الشك وعقوق الحقيقة". كلاسيكيات: رثاء، هجاء، مناسبات اجتماعية، كما في "أعياد"، "انفض عن أبي التراب ولا أهيله"، "كذابون"، وغيرها. وعكس ما عوّدتنا عليه الدواوين الشعرية من الاستهلال بقصيدة مميزة تحمل عنوانه، يترك وديع شامخ القصيدة التي تحمل عنوان ديوانه حتى النهاية خارجاً بذلك عن المألوف محدثاً بذلك بصمة ميزته عن غيره من الشعراء. والسؤال هنا، هل أن هذه الحلية هي الوحيدة التي أمّنت للديوان ندرته؟ أم أن هنالك ما هو ألذ وأعمق؟ هذا هو السؤال التي تجهد هذه القراءة المتواضعة  أن تجيب عليه.

* * * * *

بعد الاستهلال بقصيدة بعنوان "فخ أوّل" يطل علينا الشاعر بقصيدة "يوميات شاعر متواضع جداً"، هي تهويمات حلم يقظة تتقنّع فيه الذات لتفرغ ما يعتريها من ألم وقلق وسوء حظـ، ولتعلن احتجاجها على ما في هذا الوجود من عبثية وخلل في نظامه الكونيّ. وفيها يسرف الشاعر في تكرار جملة "أنا شاعر متواضع جداً" كمؤثر نفسي يدفع المتلقي لتبني أفكاره، وللغاية نفسها يستخدم ضمير المتكلم ليعرض جملة خيباته وعذاباته التي تلاحقه كوابيس في ليله، وواقعاً موحشاً في نهاراته.

"أنا شاعر متواضع أسهر الليل بقضم الأماني، أسْحَل سواده إلى بياض قلبي ورقة روحي

أنام حتى خاصرة النهار تحاشياً لبلوغ الكوابيس أوانها

أنا شاعر ضعيف الذاكرة

أنسى طنين الذباب على صحني الفاخر المحشو بالجمر والدموع".

ثم لا تلبث أن تنفجر مفاخرة خالية من كل تواضع، أو بالأحرى متقلبة بين التفاخر والتمسكن، بين الانتساب إلى طبقة المترفين وبين سلالا ت الفجور:

"أنا شاعر وسيم، أعشق الحياة الباذخة، لا أحب العوز/ وكلماتي معطّرة بزيت روحي

لا أطيق رائحة أجساد الشعراء الصعاليك، أشم رائحة العطن

على حروفهم الدرداء

أنا شاعر أمير

من سلالة فاجرة

تمتهن العهر لغة

والجمال سحراً

          وإذ نتساءل من هي هذه السلالة الفاجرة وكيف يُمتهَن العهر لغة والجمال سحراً، لا يعوزنا كثير تفكير حتى يتبيّن لنا أن الشاعر تعمد الغموض لتحفيز ذهن المتلقي، فاستخدم لفظة فاجرة لغير ما هو متعارف عليه في المعنى الاجتماعي والقاموسي (زانية) وذلك برفعها إلى رتبة الشعراء المتمكنين من صنعتهم، القادرين على تعهير اللغة (استخدامها في غير وجه حق) واستخدام جميل القول لسحر مستمعيهم (خطف عقولهم). وبذا قد تكون هذه السلالة الفاجرة هي التي نادت برفع المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين وكسبت الحرب بالدهاء . أو أن يكون الهدف من هذا الانزياح نفي للغو السفسطائيين الجدد– الذين يستخدمون جميل الكلام الخالي من لب المعنى.

 متخفياً بقناع التواضع (الخجل)، يتخفف الشاعر من حدة الغنائية المباشرة بخلق موضوع درامي/رمزي، أضفى على صوته نبرة موضوعية من خلال شخصيات استعارها من التراث العربي والعالمي (بدر شاكر السياب، سعدي يوسف، رامبو Arthur Rimbaud  ونيتشهFriedrich Nietzsche 1844-1900 وسقراط) ليتحدث من خلالهم عن تجربته المعاصرة، مبطنا عكس ما يظهر على طريقة: ". . . واقعد، فأنت الطاعم الكاسي"، التي تحتمل معنيين: الأوّل: اسم فاعل بمعنى الكريم الذي يُطْعِم ويُكْسي، والثاني: اسم مفعول بمعنى العاجز الذي يُطْعَم ويُكْسى.       

" انا شاعر خجول جداً

لم أجرؤ على رمي الصبي – رامبو- بالبيض والطماطم وهو في طريقه إلى أفريقيا، خالٍ من جمرة الشعر

ربما شاركت في تحفيز – نيتشه – على تشييع الآلهة

كنت أتمنى رؤية – سقراط – المسكين في حضرة زوجته المارقة"

ولعله من المفيد اختتام هذه المناقشة برأي آخر للباحث ريسان الخزعلي حيث يقول: إن قصيدة "أنا شاعر متواضع جداً" والتي يمكن أن نتحسس منها لعبة الفخاخ، إذ لم يعد هنالك تواضعاً، بل هنالك التسامي الأعلى والإظهار العلني لباطنية عقلية، لم تعرف من المباهج سوى ما استتر منها في تنكرية خادعة، إلا وهي تنكرية أقنعة النوايا  

على هذا النسق نسجت قصائد كثيرة من هذا الديوان كمثل "أوقظ الليل وأطعمه أرقي"، "بعض من طبائعي"، "ندم الشك وعقوق الحقيقة" و"لا وارث لي".

* * * * *

قليلة هي القصائد التي تخرج عن الأنوية كالرثاء والهجاء والغزل والنقد الاجتماعي. وهي، وإن، خرجت، لا تستخدم أساليب الأقدمين كالمباشرة والإسراف في ذكر المثالب أو المزايا، بل تنحو نحواً تجريباً  تبرز فيه المحسنات البديعية من كناية ورمز واستعارة وما شابه. نذكر منها: "حكاية سرير"، "كذابون"، "قيصر بلا سواد"، "أنا عاشق جنتلمان"، "من بعيد جداً"، و"انفض عن أبي التراب وأهيله"  

في "حكاية سرير" يبرز التجريب في استخدام رموز قلَّ أن عثرنا عليها عند شعراء آخرين. بمعنى أن وديع شامخ توقّف طويلاً عند هجاء شهريار الظلف القاسي الذي استخدم النساء كحجارة شطرنج خارجاً بذلك عما ألفناه في الأسطورة من ذكاء ودهاء وإغراء أنثوي تغلّبت على عنجهية الملك وقادته كطفل إلى سرير الحب  

النساء فصول يومه

تقويمه جنون مارق.

نزواته كنانة نافرة

. . . . .

بيدق إثر حصان، قلعة إثر وزير

ملك لا كعبة له ..

الرقعة حكاية،

 وصاحب السرير طافح السرائر،

استعار السيف لساناً، وأدمن دس السم في النوايا .. (37)

وفي قصيدة "كذابون" لا يتوقف الهجاء عند حالة مجتمعية معينة، فالشعراء كذابون، والحكايات الشعبية، والأساطير التوراتية، والطبيعة: النهر الذي "هادن الصنارات"،  والبحر الذي "ابتلع الحلم" حتى صاحب القصيدة نفسه كذاب . . . فقط الشعراء الذين لا مكان لهم في سفينة نوح، هم الصادقون  لأن لهم أبجدية وبروج عالية يطيرون إليها بلا أجنحة:

كذابون

وأجذل الكذبات،

حناجر من حجر ، تفخرها البروج.

 . . .

كذابون

آدم وضلوعه

حواء وبكارتها

. . . .

السارد الذي جاء بسرير وسيف وخاتمة

الحكواتي يقرأ الوصايا بحنجرة متقرحة بالعويل ..

. . . .

النهر الذي هادن الصنارات

البحر الذي ابتلع الحلم،

الساحل برمله وأجساد الحسناوات.

كذابون مثلي

. . . .

كن بخير يا نوح

الشعراء لا فلك لهم

لهم أبجديتهم وعروجهم بلا أجنحة .. (54-57) 

ووديع شامخ إذا رثا فإنه لا يتفجع ولا يسرف في تعداد مزايا من يرثيه كما هي العادة في هذا النوع من الشعر، وديوانه "لا وارث لي"، لا يحتوي إلّا على قصيدة واحدة في هذا الغرض، هي "انفض عن أبي التـراب ولا أهيـله"، تبدأ والابن يعلن عقوقه، ثمّ سرد لعلاقة الشاعر بوالده التي كان يتجاذبها مد وجذر، فهو مرة الأب الحنون وأخرى القاسي، وهو السوط اللامع والصوت الحنون: 

"عاق أنا والطبيعة بعض جنوني، عاق أنا يا أبي ولا أعتذر

رأيتك الآن والغبار يعلو مبسمك

تذكرت سوطك اللامع

 صوت الحنون معا،" (ص 92) 

ثم تنهال الذكريات حتى تمسي القصيدة شبيهة بأدب المذكرات اليومية مستعرضة ما يكون بين الآباء وأبنائهم من تشارك في فعاليات عادة لا تحصل إلا في مجتمع الذكور كأن يذهبا معاً إلى حفلة مصارعة ينتصر فيها المصارع على خصمه بالعكسية القاضية. ثم تتقافز القصيدة بين صيغتي السرد والسؤال إلى أن تنتهي مرددة ما ابتدأت به عقوق الابن وجنونه:

"مات أبي .. مات أبي .. مات!

كيف يموت أبي وهو شامخ؟

ضربة قاضية ترنحت بها عمرا

. . . .

أبي صوتي وبندولي

 والغناء في حضنك بلا معنى

أنت العسكري المهيب، ترتعد الطقوس لك،

لمَ أخلفت وعدك؟؟

. . . .

لا أعرف

هل كانت امي فرحة بهذا الكائن المجنون، الذي أشبعها قهراً واتخمها خبزاً؟؟

كلهم يبكون

. . . .

القبور منازل، والحياة أسئلة

كان شامخاً.

كلهم أهالوا عليه التراب!!

لعنةً

حباً

تكفيراً

الآن أبي على جدار مكتبي يعلوه الغبار،،،

أي عقوق لي يا شامخ.

أنفض عنك الغبار،

وأقبّل شفتيك بكامل العطر (92-95)

انتهج وديع شامخ في ديوانه هذا (لا وارث لي) مسيرة التحديث فاختار له القصيدة النثرية التي بانفلاتها الكلي من الوزن والقافية مكنته من التركيز على ما في لغة النثر من قيم فنية استغلها لخلق مناخ يعبر عن تجربة ومعاناة الشاعر من خلال صور عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صوتية تحس ولا تقاس" .     

وليتخفف الشاعر من حدة الغنائية المباشرة خلق موضوعات درامية/رمزية استعارها من الأساطير العربية والعالمية، من السومرية واليونانية والأوروبية الحديثة، والموروث الديني الوثني والمسيحي والإسلامي. واستعار الحكايات الخرافية والمأثورات الشعبية مستخدماً قدراته المعرفية ليجسد أداء شخصياته. كما انه استخدم المختلف الذي فيه جدة وتكثيف من رمز وكناية واستعارة وتشبيه.  

ونختتم مرددين مع الباحث ريسان الخزعلى: إن َّ تجربة الشاعر وديع شامخ  الذي نمت تجربته في بلده العراق وعلا تأصيلها في المنفى، هي تجربة ملكت وتملك خطّها البياني الذي يتصاعد بتوازيات ٍ تقول: تقدم أيها الشاعر وامنح الوجود بُعداً عقليا ً، وإن َّ انطباع القراءة أو القراءات ، هو الآخر لا وارث َ له 

المشـاهدات 88   تاريخ الإضافـة 26/03/2024   رقم المحتوى 42650
أضف تقييـم