السبت 2024/5/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 35.95 مئويـة
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

قراءة / لطيف عبد سالم

الجزء الاول

* تِجْوّالٌ في عتباتِ التَارِيخ.

* النَبَطَ هُم سُكان العِرَاق القُدَمَاء.

* السُومِرِيُّونَ هم الكَتَبة المُتدربِين على الكِتَابةِ السُومِرِيَّة مهما كانت هويتهم القَوْميَّة.

* ضَرُورَة السَعِيِّ الحَثِيْث لإعَادةِ كِتَابَة تَارِيخنا.

* حِفْظًا لِتارِيخِنَا؛ حَريٌّ بِأصْحَابِ الاِخْتصَاص الوُقُوف الجَاد عند مُعْطيَاتِ الظَاهِرَة الاِسْتشرَاقِيَّة.

 

مُقَدِّمة

      مِنْ نَافِلَةِ الْقَوْلِ إنَّ التَارِيخَ في المَعْنَى العَام، هو مَسِيْرَة حَوَادِث الماضِي البَشَرِي؛ اِعْتمَادًا على مَا تُقَدم لنَا الوثائق وَالمَصَادِر مِنْ معْلُومَاتٍ وَحَقَائِق عَنْ أحْدَاثٍ وَوَقَائِع. وَبَحَسبِ البَاحِثِين، فإنَّ التَارِيخَ لُغَةً يَعْنِي الزَمَن وَبَيَان الوقت. وَفِي هَذَا السِيَاقِ تَجْدِر الإشِارَة إلى أنَّ أولَ اِسْتعمَال للتَارِيخَ عند المُسْلمِين بِمَعْنَى التَقْوِيم وَالتَوْقِيْت كان فِي سنةِ (17) هـ عندمَا اتْخُذَ مِن التَارِيخ الهِجْرِيّ وَهِجْرَةُ الرَسُول الكَرِيْم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ) أسَاسًا لِلْتَقْوِيم، أمَا اِصْطلَاحًا، فكلمَة تَارِيخ يُقَصِّد بِهَا ماضي الإنْسَان سواء كانَ هَذَا المَاضِي في حدِ ذَاته، أو بصلته بِالحَاضِر، أو بِاحْتمَالَاته وَانْعكَاسَاتِه المُسْتقبلِيَّة.

 وَاِتْسَاقًا مَعَ تَطُور الحَضَارَات الإنْسَانِيَّة، وَمَا نَجَمَّ عَنهَا مِنْ ثَقافَاتٍ وَمَدَارِس وَاِتجَاهَاتٍ فِكْرِيَّة، خَضَعَ اِصْطلَاح التَارِيخ لِتَعْرِيفَاتٍ مُتبَاينَة على مَرِّ العُصُور، حيثُ تبلْوَرَ مَفْهُوم التَارِيخ وِفْقًا لِرُؤَى البَاحِثِينَ وَالمُتَخَصِّصين؛ لأجْلِ تَدْوِيْن المُوثَق للأحداثِ المَاضِيَةِ، إلى جَانِبِ وَصْف الحَقَائِق التي حَدَثَت في المَاضِي بِطَّريقَةٍ تَحْلِيلِيَّةٍ نَافِذَة.

***

 

رَصْدٌ مَوْضُوعِي لِبَعْضِ مَا لحق بِتاريخِ العرَاق مِنْ تَشوهَاتٍ

    يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّ الإشَارَةَ التِي ثَبَتها الكَاتِب الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي أعْلَى الوجه الأمَامِي لِغَلافِ كِتَابَهُ الذي وَسَّمَهُ بـ (أربع شَخْصِيَات مِنْ تَارِيخ العراق)، تُشِير إلَى أنَّهُ دِرَاسَةً مُوْجَزَة، لكن في حَقيقةِ الأَمْرِ، فإنَّ أهميةَ سَيْل المَعْلُومَات التي بَثّهَا الجلبي مَا بَيْنَ دفتي كِتَابَهُ، تُخَالِف مَا قَدْ يَسْتَقِرّ بِدَايَةً في ذِهْنِ المُتَلَقّي مِنْ أنَّ مَضْمُونَ الكِتَاب يَتَمَحْوَر حول تَرْجمات تَقْلِيدِيَّة لأربَعةِ شَخْصِيَاتٍ عِرَاقيَّة عاشت في أزْمَانٍ مُخْتلفَة، إذْ سُرْعَان مَا يُشَعِّر المُتَلَقّي عند دُّخُولهِ مُفْتَتَح الكِتَاب بِالاِنْقِيادِ إلى مَا مِنْ شأنِهِ التَحْفِيز علَى اِسْتِشْرَافِ المَاضِي قَصْد البحْث عَنْ حَقَائِقٍ لِتارِيخٍ مُوغِلٍ في القِدَم؛ بِفعْلِ المَعْلُومَات الصَادِمَة التي تُوَاجِهُ القَارِئ، والتي غَيَبَتْها أيَادٍ خَفِيَة عَن الأجْيال المُتَعَاقِبَة؛ لإشْبَاعِ غَايَاتٍ دُنيَويَّة تحتَ تأثِير رَغَبَاتٍ قَدْ تكون سُلْطَوِيَّة أوسِيَاسِيَّة أو تَّوَسُّعِيَّة أو غيرها مِمَا يَكْتَنِفُ الَنفْس الإنْسَانِيَّة.    

  إنَّ الكتابَ مَوْضُوع بَحْثنَا الصادر عام 2023م بـ (124) صَفْحَة مِن القطْعِ المُتَوَسط عَنْ المَكْتَبةِ العَصْرِيَّة للنَشْرِ وَالتَوْزِيع في بَغْدَاد، يُعَبر- وفْقًا لِمَا حَوَى مَا بَيْنَ دَفَتَيه مِنْ مَضَامينٍ مُهمَةٍ وَصَادِمَةٍ فِي الوَقْتِ ذَاتِه - عَنْ مُحَاوَلَةٍ جَادّةٍ مِنْ مُؤلفِهِ الكَاتِب والأدِيْب وَاثِق الجَلَبِي لِرَصْدٍ متأنٍّ لِبَعْضِ مَا تَعَرضَ لَهُ تارِيخ العِرَاق القَدِيْم مِنْ تَشوهَاتٍ تبلورت عبرَ عُقُود مِن الزَمَان؛ لِتَغْدوَ حَقَائق رَاسِخَة فِي أذْهَانِ النَاس، وَالتِي مَرَدَهَا بِالأَسَاس إلَى مَا تَنَوع وتَبَايَن مِن الأسْبَاب؛ الأمْر الذِي اِسْتَوجَبَ مِن البَاحِثِ بَذْل الكَثِير مِن الجُهُود البَحْثيَّة فِي مُهِمّةٍ قَدْ لا تَبْدُو سهلَة المَنَال؛ لأنَّهَا تقُوم علَى تَحْلِيلِ مَرْويَاتٍ أكَلَ عَلَيهَا الدَهْر وشَرب، وكَأَنَهُ هُنَا يَسْتَنْطِقُ المَاضِي بِمَوْضُوْعِيَّةٍ؛ لِأجْلِ تَحْرِيكِ كَوَامِن التَارِيخ وَقِرَاءَة خَفَايَا النُفُوس فِيمَا يَرَاهُ لَازِمًا لاِسْتجْلَاء الحَقِيْقَة.

   لَا رَيْب أنَّ جَسَامَةَ هَذِهِ الرِحْلَةِ البَحِثيَّة المَحْفُوفَة بِالصعُوبَات، فَرَضَت علَى الجَلَبِي إخْضاع صَفَحَاتٍ مَطْويَّةٍ مِنْ مَاضٍ بَعِيْد لِمَنَاهِجِ البَحْث العِلْمِي الحَدِيْثَة، مُرْتَكِزًا عَلَى نَاصِيَة التَحْلِيْل الْمَوْضُوعي؛ بغيةَ توظيف مَا يَتَسِق مِنْ نَتَائجِ بَحْثه مَعَ مَا كانَ يَعِيش مِنْ هَوَاجسٍ بِدَائِيَّة، إذْ يَبْدُو جَلِيًا أنَّ هَوَاجسَه وَشُكوكه شَكَلَا بِدَايَة الألْف مِيل فِي مُغَامَرَتِهِ المَعْرِفيَّة، التِي كانت الغَايَة الرَئِيسَة مِنهَا تَتَمَحْور حَوْلَ بَعْض المُغَالَطَات التِي لَحَقَت بِتارِيخِ بَلَدٍ خَرَجَت مِنْ أرْضِهِ أقْدَم الحَضَارَات الإنْسَانِيَّة إلَى العَالَم، والتِي آنَ لَهَا أنْ تُكْشَفَ، وَتُعْلَنَ علَى المَلَأ؛ مِنْ أجْلِ أنْ لَا يبْقَ لها أي نَصِيْب في الوجْدَانِ الإنْسَانِي.

***

  اِنبَرَى الجَلَبِي في مُقدمةِ دِرَاسَتهِ هَذِه، واصفًا إياها بالقول: "ليست دِرَاسَة أكَادِيمِيّة بَحْتَة، بَل هي قِرَاءَة عَصْرِيَّة لِشَخْصِيَّاتٍ عِرَاقِيَّة تمَّ قتلها، أو إخفاؤها والتعتيم عليها، وإنشاء شَخْصِيَّات بَدِيْلَة لتحل محلها، وتلك الشَخْصِيَّات هي بِالتأكِيد مِنْ كلْدَانِيي بَابِل"... ص (4).

  وَتَبْدُو العبَارَة المَذْكُورَة بِمَثَابةِ ثِيْمَة المَوْضُوع الذي بَدأهُ الكَاتِب بالاسْتِهْلالِ، ثمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَضَعَ يدَه على الجُرْح، حِيْن عَبّرَ عَنْ بعضِ مَا يَجُوْل فِي أَرْوِقَة المَعْرِفَة وَأزِقَّة الكُتُب مِنْ أحَادِيْثٍ وَدِرَاسَاتٍ وَتَحْلِيلَات، حيث أشَارَ إلَى ذَلِكَ بالقَوْلِ: "أنني لَمْ أرْجَع إلَا قَلِيلًا إلَى مَصَادِرِ الْمُسْتَشْرِقِين مَعَ وفرتِهَا؛ لأني مُقتَنِع بأنَّ تلك المَصَادِر قَدْ صَنَعَت تارِيخًا مُوَازِيًا لأسْبَابٍ عَدِيْدَة رغم ذِكْرها لِحَقَائقٍ لا تقبل الشَك".     

 وَلعَلَّ ما تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إليه بِخُصُوصِ هَذِهِ القَضِيَّة الشَائِكَة، هو إجْمَاع غَالبِيَة البَاحثِين على أنَّ نشأة حَرَكَة الاِسْتِشْرَاق كانت بِكُلِّ وَسَائلها وَأهْدَافها، تَبْشِيرِيَّة بَحْتَة، وإنَّ كِتَابَةَ أكْثر الْمُسْتَشْرِقِين، كانَ مَردهَا إلى أهْدَافٍ دِيْنية واِقْتِصَادِيَّة وَاِسْتِعْمَارِيَّة، فلَا عجْـبٌ وَلَا غَـرَرُ إنْ تغمَسَ مَدَاد أقْلَامهم بالطَعْنِ والتَشْوِيه؛ سَبِيْلًا  لتَحْرِيفِ، أو تَغْيِير صفحاتٍ مهمةٍ مِن التَارِيخِ الإسْلَامِي العَرَبِي والعراقي، وَلعَلَّ إلى هَذَا المَعْنَى يُشِير جواهر لَال نهرو بِقَوْلهِ: "عندمَا نُفَكِر في الغَايَاتِ يجب أنْ لَا نتَجَاهَل الوَسَائِل".(1)  

 وَتَدْعِيمَا لِمَا ذُكِر، فإن بِوِسْعِ القارِئ الكَرِيم مُرَاجَعَة كِتَاب الاِسْتِشْرَاق لـ (إدوارد وديع سعيد) الصادر باللُغَةِ الإنْجِلِيزيَّة عام 1978م، وَالمُتَرْجم إلى العَرَبِيَّة أيضًا، والذي يؤكد فيه: "وجود نوعين مِن الاِسْتِشْرَاق: الكَامِن وَالظَاهر، وكلاهما ينْتمِي إلى المُؤسَّسَةِ الْإِمْبِرْيَالِيَّة، فالتعريف الأكَادِيمِيٌّ لِلاِسْتِشْرَاق بَاتَ مِنْ صُورِ المَاضِي، وَفَقدَ مصداقيته التارِيخِيَّة حين تحَول إلى عِلْمٍ اسْتِعْمَارِيّ اسْتِعْلَائِيّ".(2) 

 وبِحَسَبِ أحد البَاحِثِين، يهدف النصّ الاِسْتِشْرَاقِي - بنظر إدوارد سعيد - إلى إعَادَةِ تَشْكيل الشّرق ليس كما هو، وإنّما كما يُرِيْد المُهَيْمِن، أي تَشْوِيه الشّرق وَنَسْج مَعْرِفَة غير حَقِيقِيَّة عنه، وَهُنَا يمارس الْمُسْتَشْرِق نوعًا مِن الفصلِ غير العِلْمِي بينَ الشرق التاريخِيّ الْحَقِيقِيّ وبين الشرق المُشكل تَشْكِيلًا مخياليًّا بغية رسم شرق قابل لكلّ الاِحْتمَالَات، التي يفترضها الغَرْب في صِرَاعِهِ مَعَ غيرِه مِنْ أُمَمِ الجّوار.(3)

 ويُشِيرُ باحِثٌ آخر إلى حَرَكَةِ الاِسْتِشْرَاق بِالقَوْلِ: "إنَّ اِدْعَاءَ الْمُسْتَشْرِقِين أنهم يلتزمون بِاسْتخدَامِ المَنَاهِج العِلْمِيَّة هو اِدْعَاء زَائِف". وَيُضِيف أيضًا قائِلًا: "وَنَحْنُ يمكن أنْ نُقدِم الكَثِير مِنْ الأدلَةِ على صِحَةِ النتائج التي توصل لها إدوارد سعيد، فالكَثِير مِن البَاحِثِين العرب ينقُلُون مِنْ كِتَابَاتِ الْمُسْتَشْرِقِين، وَيَسْتخْدمُون مُصْطلحَاتهم دون نَقْد أو تمْحِيص، وبذلك فَرَضُوا على الأمةِ التفْكِير داخل مَا يصفه سعيد بـالعَقَائِدِ الاِسْتِشْرَاقيَّة الجَامِدَة".(4)

وَلِسعَةِ التَدَاعِيات المُترَتبَة على حَرَكَةِ الاِسْتِشْرَاق، إلى جانب تعدد مَا كُتبَ عَنْهَا؛ أجِد مِن المُنَاسِبِ الاِكْتفَاء في هَذِهِ العُجَالَةِ بِهَذَا القدر مِن الكِتَابَةِ في هَذَا الشأنِ، مَعَ ضَرُورَةِ الإشارة إلى الاِعْتقَادَ السَائِد في الوَسَط الثَقَافِيّ بأنَّ الِاسْتِشْرَاقَ كَثِيرًا مَا جُنِّدَ فِي خِدْمَةِ الْمَشْرُوعَاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ وَالْإِمْبِرْيَالِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَارِيَّةِ، أَو السِّيَاسِيَّةِ فِي الْعَالَمِ الثَّالِثِ. 

***

  لَا أَظَنّنِي أَبَالَغ أو أَخَاصَم الْحَقِيقَة إذَا مَا قُلْت: إنَّ الأدِيبَ وَاثِق الجَلَبِي وضعنا في كِتَابِهِ هَذَا بِمَوْقِفٍ جَدِير بالتأمُّلِ وَالاِهْتمَام؛ لما أثرَى بِهِ دِرَاسَته هَذِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ غَرِيبَة وصَادِمَة قَدْ نَسْمع عَنْهَا لِأُوِّلِ مَرَّة، بعد أنْ عمل جَاهدًا في سَبْرِ أَغْوَارِ أربَعَة شَخْصيَات عِرَاقِيَّة مِن أروقةِ ماضِينَا، فضلًا عَمَا اِكتَنَفَ سيرهم مِنْ مُغَالطَاتٍ تَارِيخيَّة، كاشفًا بِمَا أبَانَ مِنْ حَقَائِقٍ، وَأوْضَحَ مِنْ تفاصِيلٍ مَلِيئَة بِالإثَارَةِ وَالتَشْوِيق مَعًا، وَمُظْهِرًا في الوَقْتِ نَفْسه خَبَايا النُفُوس التي لَمْ تَأْلُ جَهْدًا، وَلَمْ تدَّخر وُسْعًا فِي مهمةِ تَشْوِيه وتَزْيِيف صفحات مهمة مِنْ تارِيخِ العراق، وَالتي تُفَرِّض علَى المُتلقِي التَرْكِيز على المَعْنَى خلف مَا سطَّرَ الجلبِي مِنْ كلماتٍ في دِرَاستِهِ المُتميزَةِ هَذِهِ، بَلْ وَالمُتَفردَة بِمَا تَضَمنت مِنْ مَعْلُومَاتٍ نُظمَت وَعُولجَت بِالاِسْتنادِ إلى قَرَائنٍ أسْهَمت في بَيَانِ الصَحِيح مِن السَقِيم.

   الكِتَاب مَوْضُوع بَحْثنا جَاءَ بِأرْبعَةِ مَحَاوِرٍ أسَاسِيَّة، تطرق مِنْ خلالِهَا البَاحِث بِالاِسْتنَادِ إلى المَعْلُومَات الأصْليَّة الوَارِدَة في المَصَادِرِ التَارِيخِيَّة إلى أرْبِعِ شَخْصيَات عِرَاقِيَّة ظَلمَها التَارِيخ؛ بفعلِ كُثْرة مَا مُورسَ ضدها مِنْ أسَالِيْبٍ مَاكِرَة بِقَصْدِ تطويقها ومُحَاولة تَغْيِير هويتها الوَطَنِيَّة، فكانَ أنْ سُلبَت مِنهَا أَصُولها العِرَاقِيَّة، حيث تضمن المِحْوَر الأول منها شَخَصِيَّة النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، الذي أرْسلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الفَتْرَةِ الزَمَنِيَّة الواقعة مَا بَيْن سيدنا آدم، وسيدنا نوح (عَلِّيهمَا السَّلاَم)، وَقَدْ كانَ النَاس خلال هَذِهِ المدةِ الطَوِيلَة التي اِمْتَدت لِعَشْرةِ قُرُون يَعْبُدُونَ الله عَزَّ وَجلّ وحده، إلَا أنَّ النَاسَ توجهوا لِعِبَادةِ الأصْنَام وَالأوْثَان في أعْقَابِ تلك الحِقْبَة الزَمَنِيَّة.

  وَعَرَضَ الجلبي في المِحْوَرِ الثانِي شَخَصِيَّة فَلَكيّ نَبَطيّ بَابِلِيّ كلْدَانِي عِرَاقِي هو تنكلوشا الذي قام العِرَاقِي الكلْدَانِي (أبو بكر بن وحشية النبطي) بِتَرْجَمَةِ كُتبه عَن البَابلِيَّة. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهِ عِرَاقيًا مِنْ أهْلِ بَابِل، إلَا أنَّ بعضَهم صَحَّفَ اسْمهُ إلى (تينكلوسا)، فَعَدُّوهُ يُونَانِيًا أو فَارسِيًا أو رُومِيًا. 

 وفي المِحْوَرِ الثَالِث سـَـلَطَ الجلبي الضَوْء على شَخَصِيَّةٍ عِرَاقِيَّة أُخْرَى، تَجَسَّدَت بِحَكِيمِ بَابِل برعوثا أو بيروسوس أو برحوشا، ألذي يُعَدُّ أول مَنْ كَتَب التَارِيخ، وَأهم الْمُؤَرِّخِين العِرَاقِيين القُدَامَى، وَالذي لَمْ يُتَرْجَمَ لَهُ بِمَا يَتنَاسَب مَعَ أهميةِ مُنْجزه، حيث اِقْتصَرَت الإشَارَة إليه بِبَعْضِ النقولات التِي نَقلتها عَنْهُ الويكيبيديا وَغيرهَا مِن المَوْسُوعَات العالَمِيَّة.    

 وَلَعَلَّ المُذهلُ فِي أمْرِ برعوثا، هو أَنَّ هَذَا العَالِمِ البَابِلِيّ تناول عُلُوم الفَلَك وَالتَنْجِيم وعِلْم العَنَاصِر وَلُقبَ بِالمُنَجِّم، وَكَانَت كِتَابَاته الوَسِيْلَة لنَقلِ عُلُوم العِرَاقِيين إلى مِصْر وَفَارِس وَاليُونَان وَالإغْرِيْق والهِنْد وَكلّ الحَضَارَات القَدِيْمَة، حيثُ أنَّ العُلُومَ الكلْدَانِيَّة البَابِلِيَّة اِكْتَسَحَت العَالَم القَدِيْمَ بِرمَتهِ، حتّى فِي مَسْألَةِ مُنَاظرَة الحَيَوَانَات وَالأشْجَار فِيمَا بيْنها، وتحول تخاصم شَجَرَة الطرفاء وَالنَّخْلة البَابِلِيَّة إلى تخاصمِ الغَار وَالزَيْتُون اليُونَانِيّ.

 وَآخر الشَخْصيَات التي تناولها الجلبي في كِتَابِهِ هَذَا، كانت شَخَصِيَّة ابن وحشية النَبَطيّ الكلْدَانِيّ، الذي ترجم لَهُ بِالقَوْلِ: "عند قِرَاءة مُتَفحصَة نَجِد أنَّ ابن وحشية كان لَدَيْه مِن العُلُومِ مَا جعلهُ مَوْسُوعَة مُتَنقلَة فهو عَالِم لُغَويّ وكِيمِيَائِيّ وَعَالِم بِالأرْضِ ومَا تنبت وَعَالِم في الفَلَك وَإلى غَيْرِ ذلك  مِن العُلُومِ التي تناولها في جَمِيْعِ كُتبِهِ التي تَرْجمَهَا وَألفَها"..... ص (54).

 

المشـاهدات 82   تاريخ الإضافـة 04/05/2024   رقم المحتوى 45084
أضف تقييـم