الجمعة 2024/12/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 7.95 مئويـة
شعراء العراق الجدد وبيان المغامرة الشعرية
شعراء العراق الجدد وبيان المغامرة الشعرية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب علي حسن الفواز
النـص :

قد تبدو الخريطة الشعرية الجديدة في العراق مغايرة ومثيرة للأسئلة، لكنها غير قادرة على تأمين فكرة الخلاص الكامل من التاريخ، ليس بوصفه ذاكرة للغة، بل لطبيعة وخطورة رعب هذا التاريخ بآبائه الطغاة ومهيمناته وأقنعته، وهو ما يجعل مغامرة الشاعر الابن محفوفة بهواجس المغامرة والخوف، وأن مراودته للجديد ستكون محاولة في التمرد والتطهير، وفي مواجهة ذاكرة غامر بالممنوع، وبكلّ ما يمكن أن يتساقط من إرث الآباء في الأيديولوجيا والسياسة والعصاب ولوائح الحرب، وهي (تساقطات) كبيرة ومُهددة..

القصيدة الجديدة لن تختصر ذلك أفق الجديد، بقدر ما أنها تقترح رؤية وموقفا وتمردا، تكون اللغة (اللامعيارية) هي الخيار الفائق والصاخب، وفي التأسيس لوعي متعال، تعززه شهوة المراودة والتجاوز، مثلما هي الانغمار بروح التجدد الاستعاري الذي يسوّغ الانفلات من السياق، ومن الذاكرة المحشوة بالوصايا، إذ تدعونا هذه القصيدة إلى ما يشبه العُري والمكاشفة والمواجهة، وإلى الاستغواء بدافعٍ حاد يُحرّض على التعرّف، وعلى مقاربة ما يجري، وإلى ما يمكن أنْ تُحيل إليه من اسئلةٍ تخص المعرفة الشعرية، ومعطياتها المفتوحة على كلِّ شيء، والقابلة لأن تتفجر مع كلِّ ظرفٍ، أو مع كلّ تحوّل، وإلى الانغمار في صناعة تتجاوز العمومي الى الخاص، والتاريخ الى اليومي، حتى يبدو فعل القصيدة وتوصيفها يكمن في وعي هذا التغاير، واستكناه ما يفترضه من مسائلة تخص التاريخ والذاكرة والهوية والأثر والسلالة، وغيرها من المرجعيات التي تحصنت بها أبوة الشعر العربي.

ما نقرأه في المشهد الشعري اليوم لا يشبه القراءة في الانطولوجيا بالمعنى النمطي، أو الإقنومي، بقدر ما يجعلنا أمام اقتراح يوم على قراءة ما يمكن تسميته بالمشهد المفتوح، المتمرد على التجييل، وعقد الأدلجة وشعراء الراية كما سماهم فوزي كريم، وهو مشهدا ظلت علاماته فارقة منذ الستينيات، حيث يختلط التجاوز بالخلاص، والبيان بالعزلة، والشعر بالتصوّف، والجسد بالمنفى، واللغة بالمقموع، والحرية مع توريات الاخفاء.

كل هذا جعل القصيدة العراقية الجديد مسكونة بحساسيات القلق والتمرد، التمرد بوصفه أفقا غائما ومصعوقا، حيث تتيسر من خلاله مساءلة الواقع، واستبطان رؤية المخفي من العالم، أقصد عالمنا الشعري العراقي، الذي عاش عقدة التاريخ وبطولاته وفتوحاته، مثلما انفتح على مفارقات المغامرة والتجريب والحرية،  لكنه رغم كلّ ذلك كان محاصرا بالأدلجات الكبرى، والانقلابات والاستبداد والخوف، فضلا عن ما استغرقه من فوضى اتسعت مع الحروب الهجرات والمنافي، التي لا يملك الشاعر عندها سوى نزقه الحميم في أن يكون بعيدا عن الرقيب القديم، وقريبا من حريته، ومن شغفه بوعي التجدد، ومواجهة الواقع الجديد ما بعد "مركزية القوة" إذ يعني خلاصه الشعري خلاصا وجوديا، ورؤيته للغة تعني المكوث في زمنها الاستعاري، بعيدا عن رهاب البلاغة وقصيدة الأبوة، وذاكرة المنبر الذي اقترن بتحوله الى سلطة مجاورة اكثر عنفا، وطردا، واكثر هوسا بالتاريخ الذي مازال يملك كثيرا من الاقنعة، وكثيرا من الابناء المشدودين الى معاطف الآباء..

خطورة استعادة مركزية القوة تكشف عن مفارقات كبرى، وعن هوس بالبحث عن أفق يصلح لوعي التجاوز، ولإثارة الاسئلة الجديدة، لكن ما يجعل القصيدة شغوفة بالمغايرة انها لن تختصر ذلك الأفق، حيث تعمد الى اقتراح رؤية، موقفا، تمردا، تكون اللغة (اللامعيارية) هي الخيار الفائق والصاخب، مثلما هي المشاكلة في وعي التجديد، للانفلات من السياق، ومن الذاكرة المحشوة بالوصايا، واعادة الاعتبار للشاعر اليومي، شاعر الشاعر والرصيف والمقهى والحانة، الشاعر الذي يلتقط المهمل والمحذوف، ويضع شعريته في اطار لا يصلح للمتحف، قدر صلاحيته لاثارة السؤال الوجودي، عن اللغة والجسد والحب والغياب والحرية والعلاقة مع الآخر.

الشعر – في هذا السياق- يمكن أن يكون هو الخلاصة كما سمّاه هيغل، وهذه التسمية هي ما تجعله محتوىً لتفكير متعالٍ لاختصار الوجود، حيث يكون الشاعر هو المدوّن الأكثر نقاء من المؤرخ، والأكثر وعيا من الفقيه، إذ تتحول الكتابة عنده إلى سحر، وإلى قوة، وإلى قاموس باذخ للسيميائيات، وهذا ما يجعل محاولة الكتابة عن تاريخ جديد للشعر العراقي نوعا من المجاهرة بالمغامرة، ليس لأنه يقوم على إخصاء الذاكرة، بقدر ما أنه يسعى للإعلان عن تعبير، عن ما يشبه الخلاص، وعن استكناه لكلِّ ما ظل خبيئا وعاطلا تحت ركام «ثخين» من الجلود والمعاطف التي صنعتها السلطة والأيديولوجيا وقصيدة الحرب، حيث الشروع الفاضح والقهري نحو كتابة تاريخ ضدي للوجع الماكث في القصيدة ذاتها.

الشعر في هذا السياق لن يتخلص من أن يكون (صناعة مئات السنوات من التاريخ) كما قال الشاعر شربل داغر، وهذا ما جعله يضطر أحيانا لصيانة للذاكرة، مع توقٍ للتمرد عليها في الآن ذاته، مثلما جعل متحمسا ومستعدا للاشتباك مع التحولات الكبرى، بوصفه شعرا ذاتويا، هاربا من الجماعات، يرصد الوجود، والأمكنة المتحولة، والذوات المتحولة، التي عملت على شعرنة التقويض في اللغة، وعلى سحق الذوات ذاتها، عبر لعبة دامية ومُقنّعة وملتبسة من التوريات والمجازات والأكاذيب، أو ربما عبر سلسلة من (المغامرات) الشيطانية التي ظلت تمور بها منطقتنا الثقافية والسياسية والتاريخية دائما، تلك التي تركت الشعراء عند حقول الأدلجات والفخاخ، والأوهام والبيانات المُعسكّرة، مثلما تركت لهم لعبة التنافذ غير الآمن مع (المقموع والمسكوت عنه) في سيرة القصيدة العربية المحفوفة بأوهام الحداثة ما سماها أدونيس.. الحساسية الشعرية.. قد لا تصلح هذه الحساسية أن تكون عنوانا مهيمنا، لكنها تصلح أن تكون دالاً، أو شغفا، أو هاجسا، أو حتى وعيا قلقا أو(شقيا) بإشكاليات فلسفية عميقة تمسّ التشكّل الشعري، أو تلعب دورا في تحريك الأفكار والمفاهيم والرؤى، التي لم تكن بعيدة عن إشكاليات الجديد في السؤال الشعري، بوصف أن الشعر في العراق يملك وجودا ثقافويا عميقا، من خلال وجوده في المدينة، وفي مقاربات اليوميات الوطنية، وفي استغراقات الحكمة والتصوف والمعارضة، والشبق، والغناء، وبكلّ ما يجعل القصيدة لعبة متعالية في التفكّر، وفي أن تصطنع جوارا قلقٍا وفاضحا لمفهوم القطيعة الشعرية، كمقابل لمفهوم القطيعة المعرفية في سياقها الباشلاري، وهو ما يعني حيازة القصيدة كفعل لتمثّيل التوتر، والمغايرة والتجاوز، وباتجاه أن تكون هذه الحيازة العميقة دافعا لتأجيج الطاقة الشعرية باستمرار.

مراجعة المشهد الشعري اليوم، هي مراجعة لتلك الحساسية، التي لا تعني البحث عن وجوه جديدة فقط، بل تعني في السياق ذاته البحث عن مُناخ لتقبّل تلك الحساسية، والتفاعل معها، بوصفها تواصلا، أو انقطاعا، أو ملاحقة لفكرة «الحداثة» بكل حمولاتها الرمزية والفكرية، التي ظلت لصيقة اللغة بدون الواقع، مقابل ما استدركه الشاعر منها، وهو يلوذ بها لمواجهة الواقع ذاته، حيث ذاكرة الانكسارات والهزائم المريعة، وحيث المنافي الكثيرة والكثيفة، وحيث المقبرة بالمعنى المجازي، التي ظلت هي الأوسع من الحياة ذاتها، لذا بات الاقتضاء للكتابة دافعا لمراجعة سيرة القصيدة، والكشف عبرها عن سيرة النقائض والهواجس، وعن تاريخ القلق والخوف، عن خسائر المكتبة، عن حراسها الواقفين كالأصنام، والمسكونين بقراطيس التصحيف والحفظ والمشافهة.

الشعراء اليوم هم وارثو حساسية القلق، وبقطع النظر عن براءتهم من التاريخ والأيديولوجيا والطغيان، وسيرة الكذب الفاضح، إلا أنهم ورثوا أيضا ذلك القلق بوصفه جزءا من روح الشعر، ومن شغف ما يملكونه من نزق للحرية، ومن السؤال عنها عند أسوار اللغة، أو عند أسوار الفلسفة، لذلك يقف أولئك الشعراء اليوم طويلا عند مغامرة الشاعر المتفلسف، الشاعر الذي يبحث عن دور متعال للمعرفة، ولإدراك سرائر ما يمكن أن تؤديه اللغة من وظائف ساحرة وباذخة داخل الشعر، حيث يتحول التواصل إلى لذة، وتتحول اللذة إلى أفق لا حدود له، والأفق إلى مغامرة البحث عن فهم الوجود بذاته، أو لذاته.

 

الشعراء اليوم هم وارثو حساسية القلق، وبقطع النظر عن براءتهم من التاريخ والأيديولوجيا والطغيان، وسيرة الكذب الفاضح، إلا أنهم ورثوا أيضا ذلك القلق بوصفه جزءا من روح الشعر

هؤلاء الشعراء الواقفون (خارج التاريخ) أقصد تاريخ اللعنة، ليسوا بعيدين عن(بيان المغامرة) إنهم يحافّونه بالقلق والمراودة، ويتوقون للولوج إليه عبر السؤال الفلسفي، سؤال الشك والمعرفة، سؤال الوعي والوجود والحرية، وهو ما جعلهم يبحثون في كشاكيل شعراء متفلسفين أيضا مثل، سركون بولص، عبد الرحمن طهمازي، ياسين طه حافظ، رعد عبد القادر، عبد الزهرة زكي، محمد مظلوم، باسم المرعبي، رعد فاضل، وغيرهم. وهو ما جعل قاموسهم الشعري- أيضا- أكثر ازدحاما، وأكثر اغترابا عن واقعٍ ضاغط، لكن لا ألفة فيه، واقع مسكون بميتات غير معروفة، ميتات مجانية، وحيوات غامرة بالخيبة والعجز والمنافي الداخلية، وهذا ما يُعطي للغة مجالا لأن تكون التعويض الأبهى، الملاذ الهابيتوسي، الشراهة في استدعاء (مناصات) الإشباع، بوصفه الاستعاري الحلولي، الرمزي للتنفيس عن الاختناق، عن الصراع غير المتكافئ، عن الهروب غير الواضح إلى مزيد من الاستعارات الشائهة.

الاقتراب من الفلسفي قد يكون تبريرا للاقتراب من مجال شعري آخر، حيث الحياة المشكوك بسلامتها، وحيث الخارج المسكون برعب المركز السياسي واللغوي والعصابي، والمتشظي إلى مراكز صغيرة، لكنها أكثر قسوة، وحيث لا يكفي الحلم ولا الحرية لصناعة نصٍ عال للحماية، أو لتفسير الوجود، أو حتى لفرض صلادة الذات الشعرية، فما يحدث حول الشاعر من خراب، ومن رثاثات لا حدود لها، يتطلب وعيا خارقا، وتجديدا لكل الأدوات، ولتقانات اللعب، وحتى بالاقتراب من أسئلة الفلسفة، ومن كشوفاتها المفارقة.. هذا الاقتراب قد يكون شروعا بالمغايرة، والرغبة في إقامة مثاقفة معرفية/ شعرية، تلك التي تدرك الأسباب الخفية للتحوّل، وأسرار ما هو غامض في الوجود وفي النص، إذ تكون القصيدة في مستوى الشهادة على ما يجري من انهيارات كبرى، وبمستوى أن يكون الشاعر فيها رائيا وناقدا وحالما، وحاملا لذات المشعل الملعون الذي غامر برومثيوس الأسطوري بحمله بعيدا عن أقفاص الآلهة، وقريبا من الشوارع العامة والمقاهي والخلوات النبيلة..

حاولنا في هذا البيان (الافتراضي) أن نجاهر بالمختلف، وأن ندعو للوقوف الحر عند حافة الغابة، والاقتراب من غموضها، ليس بحثا عن غموضات أخرى، بل لاستدلال توصيفها، وللتعرّف من خلال تجاربها على طبيعة التنوع في المشهد الشعري، والتعدد في تجاربه، وفي تحولاته، إذ من الصعب جدا حصرها في أنطولوجيا ضامّة، أو خريطة تتقصد التوضيح.

إنه يشبه البيان عن رؤية شعرية، وعن أفق لا حدود له، وعن مجال يمكن أن يتمرد على الذاكرة، لكنه عالقُ فيها، يستشرف حدس التغاير الذي تصنعه اللغة وهي تجرّ معها المعرفة والصورة والخطاب، مثلما يستشرف زمنا جديدا وسريعا قد لا يطمئن للقصيدة/ البلاغة، لكنه يبحث فيها ومعها عن لحظة فاقعة للوعي، الوعي الذي يعني كشفا وتعرية للمخبوء في التاريخ، والمجذوب الى ما تصنعه القصيدة وهي تتلمس اللغة في لحظتها الوجودية، والتمثيلية، وفي عريها إزاء عالم جعلها من أكثر الممارسات التي تخفي أكثر مما تظهر..

بعيدا عن "الاسماء" التي تكتب هذه القصيدة بوعي، فإننا نجد أن هناك تجارب تتشكل وهي تملك صخب هذا الوعي، واسئلته الوجودية، مثلما تملك بمهارة وتقانة من يدرك شطارة الكتابة، والشغف بحساسية الجديد والمغاير والمثير للاسئلة...

المشـاهدات 57   تاريخ الإضافـة 10/11/2024   رقم المحتوى 55575
أضف تقييـم