الأحد 2025/4/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 32.95 مئويـة
نيوز بار
إعادة التشكيل في قصيدة "حياة الموتى" للشاعر خالد عبد الزهرة
إعادة التشكيل في قصيدة "حياة الموتى" للشاعر خالد عبد الزهرة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. عادل الثامري
النـص :

 

 

مقدمة

يمثل نص "حياة الموتى" للشاعر خالد عبد الزهرة تجربة شعرية جريئة تتحدى الثنائيات التقليدية بين الحياة والموت، وتقدم رؤية وجودية تفكك المفاهيم المستقرة عن الوجود الإنساني. وعبر لغة شعرية مشبعة بالصور الساخرة والعبثية، يعيد النص تعريف الحياة والموت كحالتين متداخلتين، اذ يفقد الموت طابعه النهائي ويصبح جزءًا من دينامية وجودية متحررة من القيود التقليدية.

لا يكتفي هذا النص بتفكيك المفاهيم الفلسفية والاجتماعية، بل يطرح تساؤلات عميقة عن طبيعة الوجود ومعنى الحياة في عالم يبدو عبثيًا وغير قابل للتفسير الحاسم. ويتخذ الشاعر من التناقضات اللغوية والبصرية وسيلة لإنتاج حالة من الارتباك الذهني لدى القارئ، تجعله يعيد التفكير في العلاقة بين الأحياء والموتى، وبين الواقع والمتخيل، ليصل في النهاية إلى رؤية تأملية تتجاوز الإدراك الحسي التقليدي. هذا النص لا يسعى فقط إلى تصوير الموتى ككائنات فاعلة في عالمهم الخاص، بل يجعل من عالمهم مرآة تعكس هشاشة الحياة الإنسانية وحدود وعيها الذاتي.

 

تفكيك الثنائية بين الحياة والموت

يبدأ النص بمفارقة صادمة: "في الطابق الثالث اتخذ الموتى مكان إقامتهم". تحمل هذه العبارة دلالات رمزية عميقة؛ فكلمة "الطابق الثالث" تشير إلى فضاء برزخي، ليس أرضيًا ولا سماويًا، بل مكانًا وسيطًا بينهما. هذا التصوير يخلق حالة من اللايقين الوجودي، ولا يصبح الموت نهاية مطلقة، بل مرحلة انتقالية تستمر في امتداد زمني غير محدد.

ويعكس استخدام عبارة "مكان إقامة" بدلًا من "مقبرة" أو "قبر" تغيّرا في التصورات التقليدية؛ فالمكان هنا ليس مجرد موقع جغرافي، بل فضاء وجودي يحمل دلالة استمرارية الحياة بعد الموت في شكل جديد. هذه الصورة تعكس تجاوزًا للمفهوم التقليدي للموت كحالة نهائية، يصبح فيها الموتى جزءًا من نظام وجودي متداخل مع عالم الأحياء. إن هذا التداخل لا يلغي الفروق بين الحياتين، لكنه يعيد صياغتها في شكل تجربة متشابكة تجعل الموت امتدادًا محتملاً للحياة، وليس نقيضًا لها.

هذا التشابك يظهر في صور أخرى مثل "يرتفعون فوق الكراسي ويغطون في نوم عميق تحت الطاولات". هنا نجد تناقضًا بين الفعلين؛ فـ"الارتفاع" يوحي بالحركة والتسامي، بينما "النوم" يشير إلى السكون والانقطاع، مما يعكس طبيعة الموتى ككائنات ليست حية تمامًا لكنها ليست ميتة بالكامل. كما يعزز النص التداخل بين الحياة والموت عبر الأفعال اليومية التي يمارسها الموتى، مثل "تفتيش الجوارير وسحبها وإيقاعها على الأرضية"، وهي أفعال قد تبدو مألوفة في سياق الأحياء، لكنها في عالم الموتى تحمل دلالة على نوع من الوجود المستمر الذي لا يخضع للمنطق المعتاد، بل يعيد ترتيب الأشياء وفق قواعده الخاصة.

وتصل هذه الثنائية إلى ذروتها في الجملة الختامية: "من الأفضل تقبل فكرة أننا موتى"، اذ يتحول الأحياء أنفسهم إلى جزء من عالم الموتى، مما يعكس رؤية فلسفية تضعف الفروق الجوهرية بين الحياة والموت، وتعيد صياغة مفهوم الوجود في ضوء واقع عبثي وساخر.

 

السخرية والعبثية

يعتمد النص بشكل كبير على السخرية والعبثية كأداتين رئيسيتين لتفكيك معاني الحياة والموت. تظهر السخرية في صور عديدة، مثل تعبير "يتبارزون بمظلاتنا المدبوغة ليوم مطيّر." هذه الصورة العبثية تصور الموتى وهم يتنافسون باستخدام مظلات معدة لمواجهة المطر، وهو سلوك لا معنى له في سياق عالمهم. كلمة "يتبارزون" تحمل دلالة تنافسية، لكنها تُستخدم هنا في سياق غير منطقي، الامر الذي يعكس عبثية الأفعال البشرية التي تبدو مهمة لكنها في الحقيقة بلا غاية. هذه السخرية تحمل دلالة رمزية عن لا جدوى الكثير من أفعال الأحياء التي تبدو روتينية أو منطقية ظاهريًا، لكنها في حقيقتها بلا غاية واضحة.

وتتجلى العبثية أيضًا في مشاهد موتى يتصرفون بفوضوية متعمدة: "يقضون أوقاتًا في تفتيشها، سحبها، إيقاعها فوق الأرضية." هذه الأفعال لا تصبح عبثية فقط لأنها غير متوقعة من الموتى، بل لأنها تعكس نقدًا ساخرًا لمحاولة الأحياء فرض النظام والترتيب في عالم فوضوي بطبيعته. كلمة "تفتيش" توحي بالبحث عن شيء مفقود، لكنها تُستخدم هنا في سياق غير مبرر، مما يعكس عبثية البحث عن المعنى في عالم يبدو خاليًا منه.  هذا الارتباط الغريب بين الموتى والأدراج يطرح تساؤلات عن الغاية من هذه العلاقة: لماذا يبحث الموتى؟ عن ماذا؟ وهل لهذا البحث أهمية في سياق الوجود؟ هذه الأسئلة تبقى معلقة دون إجابات محددة، مما يعزز التشكيك في منطقية الواقع كما نعرفه.

 

الانزياح الوجودي

يقلب النص المفاهيم التقليدية للقوة والوجود رأسًا على عقب. فالموتى يوصفون بأنهم "أقوياء" رغم كونهم "أشياء بالية"، وهي صيغة متناقضة تجسد جوهر الفكر ما بعد الحداثي في تفكيك الثنائيات المستقرة. كلمة "أقوياء" تُستخدم هنا لوصف كائنات تبدو ضعيفة وفقيرة ("أشياء بالية")، مما يعكس تحديًا للمفاهيم التقليدية للقوة والضعف. هذا الانزياح يشكل استراتيجية نقدية تفكك مركزية الوعي الإنساني وتقدم رؤية بديلة للوجود تتجاوز المنظور التقليدي.

يبرز النص فكرة الانقلاب الوجودي في العبارة "بالنسبة لهم نحن آخر ما يحدث"، والتي يتحول الأحياء فيها إلى هامش في وعي الموتى. كلمة "نحن" هنا تُستخدم لتمثيل الأحياء، لكنها تُوضع في سياق هامشي، مما يعكس تغيرا في مركزية الوجود. هذا الانزياح يعكس رؤية وجودية تدعو إلى إعادة التفكير في مفهوم الحياة والموت، اذ لا يصبح الموت نهاية، بل حالة وعي بديلة تتجاوز القيود التقليدية.

كما يظهر الانزياح الوجودي في مشهد الموتى الذين "يرفعون كؤوسهم" رغم كونهم خارج مفهوم الحياة الفيزيائي. هذه الصورة تقدم رؤية ساخرة، إذ أن الفعل ذاته يرتبط بالاحتفال، لكن في سياق الموتى يصبح بلا دلالة منطقية، مما يعزز فكرة العبثية في تصوراتنا عن الحياة والموت.

فضلا عن ذلك، نجد تحولًا في مفهوم الزمان في العبارة "الليل لا يبدأ هنا، بل يستمر"، وهو تحول يلغى خط الزمن التقليدي الذي يعتمد على البداية والنهاية. هذا التصور يقلب مفهوم الزمن الخطي إلى زمن دائري، اذ ليس هناك نهاية واضحة ولا بداية محددة، وهو ما يعكس فكرة تفكك التسلسلات الزمنية التقليدية واعادة تشكيلها وفق منطق مختلف.

تقدم هذه التلاعبات اللغوية والانزياحات الدلالية رؤية شعرية تعيد تعريف مفاهيمنا عن الوجود. و لم يعد الموت نقيضًا للحياة، بل حالة تستمر في امتداد زمني ووجودي مختلف، مما يجعل النص مفتوحًا على تأويلات متعددة تتجاوز القراءات السطحية إلى مستوى تأملي وفلسفي أعمق

التداخل بين الرمزية والواقعية

يجمع النص بين الواقعية الرمزية والواقعية الغرائبية، وتبدو المشاهد اليومية التي يتعامل معها الموتى مألوفة، لكن استخدامها في سياق غير منطقي يضفي عليها بعدًا غرائبيًا. الموتى لا يمارسون أفعالًا خارقة، بل يشاركون في طقوس تبدو يومية مثل تفتيش الأدراج ولبس المعاطف. لكن هذه الأفعال في سياقهم تصبح غريبة وغير متوقعة، مما يعزز الشعور بالغرابة واللامعقولية.

إضافة إلى ذلك، نجد أن النص يستخدم عناصر رمزية مثل "المعطف" و"المظلة"، وهي أدوات تحمي الإنسان في حياته اليومية، لكنها هنا تفقد وظيفتها العملية، مما يعكس عبثية الوجود في هذا السياق. كذلك، فإن تصوير الموتى وهم "يرفعون كؤوسهم" يحمل دلالة مزدوجة: فهو فعل احتفالي يُمارس في الحياة لكنه في عالم الموتى يصبح خاليًا من المعنى، وهو ما يعزز المفارقة بين الواقعي والرمزي.

تعكس اللغة المستخدمة في النص هذا التداخل بين الواقع والرمز، إذ تعتمد على صور شعرية تنقل القارئ بين مستويات متعددة من المعنى. فمثلاً، استخدام الفعل "يتبارزون" في سياق الموتى يُعيد تشكيل دلالته من كونه منافسة بين أحياء إلى فعل رمزي يُحاكي محاولات إثبات الوجود حتى بعد الموت. وبذلك يعمل النص على زعزعة التصورات التقليدية للعالم، ليكشف عن بعد فلسفي يجعل من الموت استمرارية لحالة رمزية لا تنتهي.

خاتمة

يشكل نص "حياة الموتى" تجربة شعرية تتحدى التصورات السائدة عن الحياة والموت، اذ انه ينسف الحدود الفاصلة بينهما ليعيد تشكيل مفهوم الوجود بطريقة غير تقليدية. وعن طريق توظيف السخرية والعبثية والانزياح الوجودي، يخلق خالد عبدالزهرة عالمًا متشابكًا يُسائل المعايير الثابتة للواقع والخيال. لم يعد الموت مجرد انقطاع عن الحياة، بل تغيّر إلى حالة بديلة من الوعي تتداخل مع إدراك الأحياء، ما يجعل الفارق بينهما ملتبسًا وغير مستقر. وبهذا، يدفع النص القارئ إلى إعادة التفكير في طبيعة الحياة والموت، مؤكدًا أن الوجود ليس ثنائيًا صلبًا، بل بنية دينامية تحتمل قراءات متعددة وتأويلات لا نهائية.

المشـاهدات 194   تاريخ الإضافـة 02/03/2025   رقم المحتوى 59995
أضف تقييـم