
![]() |
سؤال الآخر وأسى الفراغات الكثيرة في مجموعة (املأ الفراغات الماضية) |
![]() 162238.png - 259*194 - 3 KB |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : د. سمير الخليل تضعنا مجموعة (املأ الفراغات الماضية) للشاعر (أنمار مردان) إزاء عوالم وتنويعات رؤيوية للتعبير عن كل أشكال الخراب والوجع ويتخذ من دالّة (الفراغ) عنواناً وإشارة لهذا الخراب، ويصبح الفراغ دالاّ شعرياً يحيل إلى مدلولات هذا التشظي والخواء الذي يسكن العالم، وكأن الشاعر يقدّم لوحات شعرية لرثاء ما تبقّى، وهو يجسّد صور الانكسار والضياع وبشاعة الحروب وغربة الذات وغياب الآخر. وعبر المنحى التحليلي لسيميائية العنوان: فإنّ الشاعر غالباً ما يوّجه خطابه إلى الآخر (املأ)، وإن الماضي مسكون بالفراغ والخراب وهو يستحق التأمّل والسؤال بكلّ أبعاده الوجدانيّة والوجوديّة، ولذا نلحظ نصوص المجموعة تنطوي على إثارة الأسئلة، والتأمّل ورصد الارتكاس بكلّ أبعاده وصوره ودلالاته، ويميل الشاعر إلى لغة انزياحية ويكثر من المجاز ودلالاته الإحالية والإشارية، ووظّف كل العتبات والإشارات والإهداء لتعميق سؤال الألم والخراب فبدت لوحة الغلاف بوصفها عتبة دالّة، بدت وهي تتجسد على شكل لوحة سيريالية، تحيل إلى معنى الفراغ، على الرغم من تزاحم الأشكال لكنّها تبدو مقطّعة الأوصال، وتوحي بالتشظي والضياع وغرابة الصورة والدلالة، ويتناغم المعنى ويتنافذ مع هذه المعطيات عبر دلالة وإشاريّة الإهداء والتركيز على (الرأس) بوصفه دالاً على الفكر والتأمّل والوجع الحقيقي، وكأنّ الشاعر يوحي إلينا بأن مركزية الذات تكمن في الرأس، فهو منبع السؤال الوجودي وهذا المعنى نجده يكرّر مفردة الرأس ودلالتها في أكثر من نص تماهياً مع معنى الإهداء: "لأجلك فقط... تركت أصدقاء السوء، أوّلهم رأسي....!!" (المجموعة: 5). ويمكن الاستدلال على ميل الشاعر للتعاطي مع روح الإختزال وتقديم ومضة على شكل صور وتداعيات من دون فائضيّة كما في نص (لا وقت لإطلاق النار): في انفجار أو حريق ما / لا تبحث عن رأسك ولا تحاول أن ترتبّه أو تلملمه / فحين تموت متفحما من المستحيل أن تقابل الله / بوجهٍ حسن...!!" (المجموعة: 7). ونجد الاستهلال وقد ارتكز على شبه جملة ودخول في أجواء الحدث (الإنفجار) ثمّ يكرر لا الناهية الجازمة في عدم جدوى البحث كدلالة على الضياع والوجع والفراغ ويكرّر (اللا) في (لا تحاول...) وهي اشارة الى انعدام القدرة المقترنة بانعدام الجدوى، ويختم الشاعر نصّه المختزل بمفارقة ودلالة على الموت المجّاني، واستعارة مفردة (التفحّم) للإشارة الى بشاعة الموت، وطقوسه المعتمة فضلاً على إشارة (الرأس) بوصفه المعادل الوجودي للإنسان بكليّته، فالرأس يستهدف في لحظة الموت وهو الصندوق الأسود الذي يختزن أسرار وهواجس الذات، ويتوّغل الشاعر في لوحاته الشعرية المكتظّة والدالة في تجسيد قبح ودمار الحرب وهو يرصد تفاصيلها وقد احتلّت موضوعة الحرب مساحة أثيرة في مجمل نصوص المجموعة ويتجلّى هذا المعطى في نص موسوم (نصوص): الساعة تختفي من يد أحد الجنود / الوقت هنا لا معنى له سأختار نصف شمعة بيضاء / ودراويش من الموتى لكي .. يحتطب الجندي رؤياه / كان لابُدَّ من قراءة كتفه قبل كفّه فالقاذفة أكلت أحلامه توّاً / وسيميائية ظلّه التي لا تستطيع الوقوف على الشجر سر هكذا قالها (نائب العريف...) (المجموعة: 61). ويتوغل الشاعر في عوالم الحرب بمعطى واستهلال مباشر من دون الخروج إلى فائض وصفي، ويرمز بضياع واختفاء الساعة من يد الجندي، وهي صورة كنائية للتلاشي الكلّي، والجزء يرمز للكل فضلاً عن سيميائية الساعة ودلالتها على غياب العمر والزمن والوجود ويعزّز هذا المعنى بتكرار إشارة زمنيّة أخرى "الوقت هنا لا معنى له"!! ويقترن الزمن باللاّجدوى واللاّمعنى وهو الإحساس الذي ينتاب الجندي في ساحة المواجهة، أو ساحة انتظار الموت، وللتدليل على العتمة والظلام يبحث الشاعر عن نصف سمعة بيضاء في محاولة لاضاءة هذا الكابوس الكالح والمعتم، في طقس يحتفي بالموت ويتحوّل الجنود الى دراويش وهم يتلاشون، وكأنّ الحرب نوع من (الدروشة) المقيتة، ويصبح جسد الجندي كلاّ متّصلاً لا تفرق بين كتفه وكفّه، وعلى وفق هذا الجناس الناقص تكتمل صورة استهداف الجسد بكلّيته ويوظّف الشاعر مفردة (القاذفة) كدلالة على احدى علامات الحرب التي ترتبط بالشعور والذاكرة وتتحوّل القاذفة إلى غول لالتهام أحلام الجنود الحالمين بالعودة، ونستدل على علامة مقترنة ومعبرّة عن الحرب وأجوائها وطبيعتها بالإشارة إلى نبرة الآمر والإستعباد الذي يطلقه نائب العريف بوصفه أحدى أدوات وعلامات الحرب، وهو الآمر الأقرب الذي يشير إلى الاستبداد والاستحواذ والامتلاك. ويتناول الشاعر موضوعة الحرب في نص (لا وقت لاطلاق النار) من زاوية ومنظور آخر ونجتزئ هذا المقطع: "إنّي على ما يرام / فالقصائد السمراء التي لم أكتبها إلى الآن لا تفقه طعم الحروب / مثل طفل يمشي ببطء وأمّه تضع فوق رأسه مبخرة..." (المجموعة: 71). وجملة إني على ما يرام تعبّر عن معكوس المعنى، وهي تجسد حالة غياب القصائد، والقصيدة بجمالها، بطبيعة الحال لا تفقه بشاعة وقبح الحروب، وتجسيد لمعنى التناقض والتضاد الذي تعبّر عنه ثنائية القصيدة والحرب وكلّ منهما يعبّر عن المعنى المضاد. يجسد الشاعر معنى آخر من خلال صورة شعريّة معبرّة ودالّة، وهو يصف الطفل الذي يسير ببطء، وأمّه تضع فوق رأسه مبخرة!! وتلك صورة تتضمن إحالة إلى وضع نوع من الدعاء والإحتراس وحماية الطفل من الوجع والمحنة التي تنتظره، هي رؤية استباقية لما سيكون عليه الطفل في قادم الخطوب، ويمكن ملاحظة توظيف (الرأس) أيضاً في هذا النص بوصفه علامة معبرّة عن الذات الإنسانية واختزالها في جزء فاعل هو الرأس حتّى تتحول هذه المفردة إلى اختزال أو معادل وجودي للإنسان بكلّيته، ويتحوّل الرأس إلى علامة للرفض في نصّ (هوس قزح) وهو نص يخلق مقاربة مع رؤى وأسئلة وجودية وتجسيد السأم الذي يسكن عوالم الخراب: "القاتل يذهب إلى المرقص / الراقصة هناك تهزّ كتفها القتيل أيضاً يهزّ كتفه / يا ترى من / يدخل إلى الجنّة؟! كلّما قرأت فصلاً من الرواية / خلعت رأسي ورميته إلى الهاوية / لأستريح..!!" (المجموعة: 75- 76). ويمكننا أن نلحظ هناك توصيفات لرسم ملامح المشهد الذي يتضمن المتناقضات ويصبح الفعل (تهزّ) المشترك بين اكثر من دلالة فالإهتزاز قد يكون بسبب الرقص، وقد يكون بسبب الموت، ويصبح التماهي المضاد بين الراقص والقتيل إشارة إلى عدميّة وتناقض الواقع، ويصبح السؤال الوجودي: من يدخل الجنة؟ ويعلق هذا السؤال بوجود رواية تروي السأم والوجع والضياع مما يجعل الذات تخلع (الرأس) وترميه إلى الهاوية لأنه مصدر القلق، يرميه للحصول على نوع من الإستكانة والإرتياح، ونلاحظ التوكيد مرة أخرى على الرأس بوصفه البؤرة التي يتمركز حولها وجود الإنسان، فهو الذاكرة والسؤال والحلم والكابوس، ولأنّه يجمع المتناقضات، ورميه يعدّ سبيلاً مريحاً، أو وسيلة للتخلص والخلاص من سأم المتناقضات، فمثل هذه الصور والدلالات يميل إليها الشاعر على وفق استبصارات واسئلة وجوديّة عن الإنسان والموت والسأم والوجع والضياع وغالباً ما يوظف صيغة التمنّي للبحث عن الخلاص والملاذ كما في نص (لست وحيداً): "ليت الشمس حصان أبيض / فأركبها ليت عمري نهار جنة / لأرتب رتوش عمرك الصغيرة وأصعد حالماً بها / لأعيد عذابات جهنم من جديد وأحقنها وردا أحمر على نسمة / أول لقاء جمعنا..." (المجموعة: 29). ونلحظ في النص تكرار فعل الترّجي (ليت) عدّة مرات توكيدا لحلميّة الرؤية وتوق الذات إلى الخلاص ومقاربة الحلم لكي تتحوّل الشمس إلى حصان أبيض، ويتحوّل العمر إلى جنّة ويخاطب بهاجس وجداني وهو يخاطب المرأة ويعيد انتاج عمرها وزمنها كدلالة على وجودها، وبها يصعد إلى أعالي الحلم ويصبح العذاب نوعاً من التلذّذ حين تنهال ذكرى اللّقاء الأوَّل متوالية من الصور الشفيفة التي لا تخلو من اقتران المتناقضات، وتنطوي على أسئلة وأمان، وبحث عن الحلمية في عالم المكتظ بالفراغ، أي أن التمني والنزعة الحلمية تؤشر ضمناً على وجود المعادل المضاد، فالإنسان حين يحلم ويتمنّى فإنّه يحاول التخلّص ممّا يحيط به من سأم وفراغ وأحزان، أي أن حضور التمنّي يحيل إلى غياب يتمناه الإنسان، وبذلك يحقق الشاعر توافر المعنى الدال من خلال الصور الموحية التي تجمع عناصر وإحالات التضاد للكشف عن عتمة وسكونية الواقع. ونجد ظاهرة تكرار العنوان نفسه في أكثر من مكان أعني (لا وقت لإطلاق النار) ويتضمّن العنوان نوعاً من توكيد الفراغ والضياع والسأم الوجودي بحيث لا يجد الإنسان وقتاً لإطلاق النار والقيام بفعل ينسخ الواقع المحتدم، ومن المؤكد أن تكرار عنوان القصيدة في أكثر من نموذج ينطوي على اشارة أو دلالة تحمل عدّة معانٍ وتنفتح على طاقة من التأويل والمعنى المتعدّد: "كل شيء يبدو طبيعياً للغاية / الأحلام التعيسة التي توقفت قبل نضوجها رسائل الحب قبل أن تبتلع/ ضحكات الطيور المهاجرة وهي تزيل العرق من الغيم / الخرافات التي تكتب برقيم سومري وبعطش يبدو للناظرين / كتابا مفتوحاً / التاريخ الملحمي الذي يكذب حين تنقله لنا / القوافي / بضاعة تالفة / الساعة التي تقطع أميالها ندماً / حتى يشيخ الجدار... (المجموعة: 30). والنص بكلّيته ينطوي على أسئلة وجودية وعلى مساحات من تجسيد الفراغ والعدم والتلاشي من خلال متواليات من الصور الموحية، وجملة الإستهلال "كل شيء يبدو طبيعياً للغاية" إشارة فيها الكثير من المفارقة والسخريّة الدالّة على نقيضها، بوجود الأحلام التعيسة التي توقفت قبل نضوجها، ويصف الأحلام وكأنّها أشجار لها معطياتها وثمارها، لكنها قطعت قبل الأوان، ورسائل الحب الضائعة، والطيور المهاجرة، والخرافات والتاريخ الملحمي الكذوب، والبضاعة التالفة، تراصف صوري ومتواليات تعبّر عن أقصى حالات الفراغ والزيف والكذب والسأم حتى أنّ الزمن بمعناه الفيزيائي والتاريخي يستحيل إلى ساعة يصيبها الندم حتى يشيخ الجدار، ونلحظ الطاقة الاستعاريّة في تكرار صور تجسّد وتكشف عن حجم هذا الفراغ العدمي الذي يشبه (كابوساً) قدريّاً. وتظل صياغة النسق الصوري في نصوص الشاعر يعتمد على خلق انزياحات دالّة تنقل المفردة واللغة من مرجعيتها المعجميّة إلى فضاء شعري ينفتح على تعدّد المعنى وتوافر طاقة التأويل والمراهنة على المعنى المضمر البعيد والمراد، فمجموعة (املأ الفراغات الماضية) إضمامة من النصوص التي تحرّض على السؤال والتأمّل للكشف عن عوالم الفراغ والانكسار والعتمة. |
المشـاهدات 107 تاريخ الإضافـة 11/03/2025 رقم المحتوى 60397 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |