
![]() |
حين يُمسك التاريخ بعزرائيل: {قراءة في رواية يوسف زيدان.. عزازيل}!! |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
تأمل نقدي/شوقي كريم حسن لم اك التفت الى يوسف زيدان وما يكتب، بسبب اهتمامي بالادب العراقي الذي بات يحتاج الى قراءة وتلمس مديات نجاحه،ولكني وجدت نفسي مضطرا بعد ان اصبح محط انظار معارض الكتب في العراق واهتمام الحكومة والمنظمات الثقافية وربما الأحزاب، لهذا قررت قراءة روايته التي اثارت لغطاً حين اتهم بسرقتها،، في روايته “عزازيل”، يذهب يوسف زيدان إلى منطقة إشكالية من التاريخ الديني والسياسي، منطقة طالما شكلت خزانًا خصبًا للصراعات والتأويلات والنزاعات، حيث تتقاطع المصائر بين الإنسان والنص، بين السلطة والمقدس، بين الكلمة والدم. الرواية لا تنشغل بسرد وقائع بقدر ما تنشغل بكيفية إعادة ترتيب الوعي الجمعي وفق منظور يكاد يكون مناقضًا لما استقر في المخيال الشعبي العربي والإسلامي.يوسف زيدان لا يكتب التاريخ، بل يرواغه. يجترحه من زوايا منسية، ويقدمه على لسان شخصيات مأزومة بالوجود والأسئلة الكبرى. لا تمضي الرواية وفق خط سردي تقليدي، بل تتقافز بين محطات روحية وسياسية، يعلو فيها صوت الشك على اليقين، وصوت الفرد على الجماعة. هذا ما يجعل “عزازيل” ليست مجرد رواية، بل محاولة لإعادة طرح سؤال: من يكتب التاريخ؟ ولأي غرض يُكتب؟ الزمن في الرواية لا يسير، بل يتكرر، يتقلب بين المعارك، والخيانات، والتحالفات المتبدلة. يختلط فيه الدين بالسياسة، والعقيدة بالمصلحة، والموقف بالحيلة. وعزازيل، بوصفه رمزًا للموت ولحظة الحقيقة، يتحول إلى مرآة تعكس زيف الشعارات الكبرى، وتفكك الأساطير المؤسسة. بعيدًا عن لغة الإدانة أو التمجيد، يتعامل النص مع الشخصيات التاريخية بوصفها كائنات بشرية، لا أنصاف آلهة ولا شياطين مطلقة. وهذا بحد ذاته فعل أدبي جريء، يعيد الاعتبار للحس الإنساني في مقاربة التراث، ويفتح الباب أمام مراجعات عميقة، تتجاوز النصوص الجامدة نحو أسئلة الحرية، والهوية، والعدالة. رواية “عزرائيل” تقرأ التاريخ لا من موقع الحياد، بل من موقع الكشف، وتفترض متلقياً لا يكتفي بتلقي الأحداث، بل يعيد مساءلتها. وبين السطور، يمكن قراءة مرثية طويلة لحقيقة تم اغتيالها، وذاكرة تعرضت للطمس، ووعي تشكل تحت سطوة السرد المنتصر.، لا يقدم زيدان حقائق، بل يزعزع يقينًا. وهذا، بحد ذاته، الدور الأكثر صدقًا للأدب حين يشتبك مع التاريخ.الرواية التي اختار لها زيدان اسم “عزازيل”، لا تقف عند العنوان فقط كرمز للموت الفيزيائي، بل تتوسع في طرحه كمجاز للموت الرمزي للتاريخ حين يقع في قبضة المنتصر. عزرائيل في السياق، ليس ملكًا يقبض الأرواح، بل شاهِدًا على لحظة السقوط الجماعي للوعي، حين يُستبدل بالسرد الموجّه، الملوّن بلون الدماء، المُطعَّم بالفتاوى، المقطَّع على مقاسات السلاطين. يوسف زيدان يعرف تمامًا أين يضع إصبعه. لا يبحث عن مناطق الضوء بل يفتش في العتمة، في هوامش كتب التاريخ التي لم تُقرَأ إلا باعتبارها حواشي، وفي الروايات التي لم يكتبها أصحابها بل كُتِبت عنهم. هذا ما يجعل من “عزازيل” عملاً يسائل لا الأحداث فحسب، بل طريقة قراءتنا لها، وبنية الذهن الذي تلقّاها عبر قرون.في خلفية الرواية، يتحرك التاريخ خدعة، أداة قابلة للتشكيل، مرنة تحت أصابع السلطة. يخلط زيدان بين الحقيقة والأسطورة، بين الوثيقة والتأويل، ليعيد المتلقي إلى زمن تشكّلت فيه مفاهيم الولاء والخيانة، الكفر والإيمان، على أساس المصلحة لا العقيدة، و حساب الإنسان لا لأجله. المكان في الرواية ليس خلفية ثابتة، إنما شريك متوتر في الحدث. من المدن المقدسة إلى الصحارى، ومن دهاليز البلاط إلى الزنازين، يتحرك الأبطال بين حدود الجغرافيا و الإيمان، وكأن زيدان يقول إن الأرض، شهدت، لم تك دومًا محايدة، بل كثيرًا ما انحازت لمن ذبحوا باسمها.الشخصيات، و معظمها شخصيات تاريخية لها صدى في الوجدان الجمعي، تُقدم مجردة من هالات التقديس. تعاني، تخاف، تراوغ، وتبرر. ليس لأنها شخصيات شريرة، بل لأنها بشر، و السرد التقليدي جرّدها من إنسانيتها لصالح رمزية مطلقة لا تحتمل الشك أو الاختلاف. بهذه المعالجة، لا يُهين النص التاريخ، بل يحرره من سطوة التمجيد الفارغ.والرواية لا تُعفي المتلقي من مسؤوليته. لا تسير به في درب آمن من التلقي، بل تربكه، تربك تصوراته الموروثة، وتدفعه إلى التساؤل: كم من الوقائع قُدِّمت لنا بلسان المنتصر فقط؟ كم من الأسماء ضُخّمت، وكم من الأسماء غُيّبت؟ كم مرّة قُتل الضحايا مرتين، مرة بالسيف، ومرة بالصمت؟ إن ما تفعله “عزازيل” ليس زعزعة إيمان أو نفي حقائق، بل زعزعة الثقة في الرواية الواحدة، الأحادية، المكتفية بذاتها. فالتاريخ، كما يطرحه زيدان، ليس كتابًا مغلقًا، بل نصًا مفتوحًا على كل الاحتمالات، نصًا يمكن أن تعاد كتابته متى ما تجرأنا على طرح السؤال الأول: ماذا لو لم يك ما قرأناه هو الحقيقة الكاملة؟!!“عزازيل” ليست مجرد عمل أدبي، انما وثيقة احتجاج ناعمة على الوعي المقولب، على التاريخ المجبر على الصمت، على العقل المستسلم. يوسف زيدان لا يطرح بدائل يقينية، بل يخلخل الأرض تحت أقدام اليقين، ويترك المتلقي معلقاً بين السؤال واللايقين. وهنا، ، تكمن قوة الرواية: في قدرتها على إعادة تشكيل علاقتنا بالتاريخ، لا من باب الإدانة أو التمجيد، بل من باب الحرية والشك والمعرفة.فهل نملك شجاعة إعادة القراءة؟ وهل نحن مستعدون لأن نمسك التاريخ دون خوف، حتى لو تشكّل أمامنا على هيئة “عزرائيل”؟ السؤال الأخير في الرواية لا يُطرح على لسان شخصية، بل ، إلى المتلقي الذي أنهى الصفحات بقلق صامت:هل ما نعرفه عن التاريخ هو ما حدث فعلًا، أم ما أراد لنا “المنتصرون” أن نؤمن بأنه حدث؟ في “عزازيل”، لا يُعاد إنتاج الأحداث كوقائع جامدة، بل يُعاد طرحها كصراع تأويلي، و يوسف زيدان يُدرك أن التاريخ ليس ما كان، بل ما كُتب عنه. الرواية تُفكك هذه العلاقة المعقدة بين النص والسلطة، بين العقيدة وممارستها، وتضعنا أمام حقيقتين متوازيتين:الأولى أن الإنسان دومًا أسيرًا للرواية التي انتصرت، والثانية أن بإمكان الأدب أن يكون خلاصًا من هذا الأسر.و يمكن القول إن “عزرائيل” ليست رواية عن الماضي، بل عن الحاضر الذي لا يزال يتغذى على سردياته. الرؤية التي يقدّمها زيدان ليست مجرد مساءلة فكرية، إنما محاولة لتفجير البُنى القديمة التي تتحكم بالوعي الجمعي. لقد فشل المثقف التقليدي، كما يُلمّح النص، لأنه تقوقع في خطاب التبرير، أو في خطاب الإدانة، ولم يُنتج خطابًا ثالثًا: خطاب الفهم.بمكر أدبي ظاهر، يدفع زيدان المتلقي إلى لحظة حرجة، لحظة يرى فيها أن المقدّس لحظاته التاريخية أداة لفرض السيطرة، والخطاب الديني ـ كما تُجسده بعض شخوص الرواية ـ لم يك بريئًا من النزعة السياسية، بل شريكًا فيها أو واجهتها الناعمة.في خلفية كل فصل، تحضر مفارقة مقلقة: كل ما يبدو راسخًا في أذهاننا عن تلك العصور ليس إلا رواية تم إسكات باقي الروايات لصالحها. وكل من يحاول سرد رواية مغايرة، يطاله الاتهام بالخيانة أو الكفر أو التجديف. وهكذا، يصبح التاريخ في الرواية فضاءً محروسًا، يُمنع دخوله إلا بمفاتيح التأويل الرسمي، وبصوت واحد لا يحتمل النشاز.لكن يوسف زيدان، في “عزازيل”، اختار أن يكون نشازًا. ليس نشازًا عدميًا، بل نشاز الباحث عن نغمة خافتة ضاعت بين صراخ الجيوش وهتاف الحشود وصلوات المنابر. اختار أن يُنزِل الشخصيات من فوق المنصات، ويُعيدها إلى الأرض، إلى قلقها، جوعها، خوفها، وخيباتها. وهذا ما يجعل العمل صادمًا بقدر ما هو كاشف.لإنه لا ينقض الرواية الرسمية، ولا يستبدلها برواية جديدة، بل يضعها موضع الشك. وبهذا الفعل، يعيد للوعي العربي إمكانية النظر إلى ماضيه كمرآة للذات. الماضي ليس قدرًا، انما مادة للوعي. والتاريخ، إذا لم يُقرأ نقديًا، يظل يعيد إنتاج ذاته كفخ للأجيال القادمة.ومع انتهاء الرواية، تبقى شخصياتها في الذهن لا كأبطال ولا أشرار، بل كائنات محطّمة تحت ثقل الأسطورة. ويتحول “عزازيل” من اسم إلى رمز، من قاتل إلى شاهد، من نهاية إلى بداية، و النص كله ليس سوى نداء واحد عميق:لنقرأ التاريخ لا لنُدين، بل لنفهم ،كيف وصلنا إلى هنا، ولماذا، وإلى أين نمضي إذا ظللنا نُصغي إلى صوت المنتصر. هكذا تمضي “عزازيل”، روايةً تضع الموت في خدمة الحياة، والشك في خدمة الوعي، والتاريخ في خدمة الإنسان، لا في خدمة من تكلّم باسمه، وكتب سِفر أيامه، ثم ختمه بختمٍ مقدس وقال: هذا هو الحق. هل نصدّقه؟ أم نفتح الكتاب من جديد؟!! |
المشـاهدات 81 تاريخ الإضافـة 01/06/2025 رقم المحتوى 63592 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |