الخميس 2025/6/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
نيوز بار
استنفاد المقاربة النقدية نحو أبستمولوجيا ما بعد نقدية للإمكان التوليدي
استنفاد المقاربة النقدية نحو أبستمولوجيا ما بعد نقدية للإمكان التوليدي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب الدكتور عادل الثامري
النـص :

 

 

 

 

 

تجد النظرية النقدية المعاصرة نفسها في حالة مفارقة من الاستنفاد الابستمولوجي، حيث تحوّل النقد، الذي كان في السابق أداةً راديكالية لكشف بنى الهيمنة في التقاليد الماركسية والنسوية وما بعد الاستعمار، إلى ممارسة مؤسساتية نمطية تتسم بإشارات انعكاسية متكررة، غالبًا ما تُعيد إنتاج المنطق ذاته الذي تزعم سعيها إلى تفكيكه. إنّ هذه "المناعة الذاتية" التي تطبع الخطاب النقدي تتجلّى في أشكال من الشك المؤسّساتي، الذي يكافئ الحركات النمطية لنزع الطبيعي، مما يؤدي إلى تسطيح الخصوصيات التاريخية والسياقية، تُخضَع النصوص والظواهر إلى تسوية بنيوية تماثلية، تُفرغها من خصوصيتها التاريخية والسياقية، في مفارقة حادّة تتمثل في استمرار هذا الخطاب في العمل داخل البنى الأكاديمية ذاتها التي يدّعي مساءلتها.

ومع أن هذا الاستنفاد لا يُمثّل إعلانًا عن بطلان النقد أو موته المفاهيمي، بقدر ما يفتح أفقًا لتجاوز التفكيك الآلي عبر إعادة أرخنة تُعيد الظواهر إلى سياقاتها التاريخية المتشابكة، متجاوزة بذلك التجريد البنيوي المُفرط، وإلى تبنّي ما يُعرف بـالقدرة السلبية بما يسمح بتحمّل الالتباس والتعدد الدلالي، والانخراط في ابستمولوجيات ما بعد نقدية، كالواقعية التخمينية speculative realism، والتي قد تُرفد الجهاز المفاهيمي المستنزف للنقد بموارد نظرية بديلة. يستدعي هذا المنعطف أنماطًا من الاستقصاء أكثر رشاقة وحساسية للسياق، لا تنزلق إلى الوضعية الساذجة، ولا تُعيد إنتاج النقد بوصفه اداء عقائدي محنط.

تُفضي هذه الحالة الانعكاسية إلى فرط الإنتاج التأويلي، اذ إنّ تعميم آلية النقد على كافة الظواهر يؤدي، وبصورة مفارقة، إلى تآكل فاعليته السياسية. يمكن الاشارة إلى هذا التحول من خلال استعارة بيولوجية متمثلة فيما يسميه ستيرلنغ هال الاستماتة الخلوية (apoptosis) أي الموت الخلوي المبرمج. وكما هو الحال في هذه العملية العضوية، فإن المنطق الداخلي للنقد يبدو وكأنه منطق إتلافي ذاتي: فالإلحاح المستمر على الكشف والتفكيك أدى إلى تعطيل قدرته على إنتاج معرفة جديدة ذات محتوى معرفي ملموس. فالآليات التي صُمّمت لكشف بنيات السلطة أصبحت، على نحو منهجي، تُقوّض الحيوية المعرفية للنقد ذاته، محوّلة الأداة التحليلية إلى طقس تأويلي استهلاكي يقوم على النفي المستمر. وتحوّل الهاجس بالتفكيك المستمر إلى غاية في ذاته، ما فصل بين النقد وبين إمكاناته التحويلية، وأبقى منه مجرد قشرة فارغة من اشاراته المنهجية السابقة.

 

النقد بوصفه أداءً ذاتي المرجعية

لقد تحول النقد المعاصر إلى ممارسة ابستمولوجية ذاتية المرجعية. واستنادًا إلى ملاحظات برونو لاتور المفصلية، فان النقد لم يعد فعلاً جماعيًا حواريًا يسعى إلى كشف الحقيقة، بل غدا آليةً لإنتاج الشرعية الذاتية للفاعل النقدي. ففي إطار اقتصاد الإنتاج الرمزي هذا، يراكم الناقد رأس المال الرمزي (عند بيير بورديو) من خلال تموضعه في موقع ابستمولوجي متميز، بما يفترض امتلاكه القدرة على تمييز الأيديولوجيا أو التقديس أو الوعي الزائف، في حين يُصوَّر الآخرون كغافلين مستغرقين في هذه البنى.

ويرتبط هذا التموضع المعرفي ارتباطا لا ينفصم باقتصاد عاطفي قوامه الشعور بالتفوّق الأخلاقي، حيث يُسخَّر النقد لا كأداة تحليلية، بل كسلاح للتنديد الخطابي. في هذا السياق، يغدو البعد الأدائي للفعل النقدي هو المحور: ففعل "النقد" يُمارَس أساسًا من أجل إظهار تفوّق الناقد الأخلاقي. وتتجلى هذه الالية بأوضح صورها في البيئات الرقمية، حيث يتموضع الخطاب النقدي في دوائر من الغضب وثقافة الفضح. ففي هذه الفضاءات، يتخذ الخطاب فائق النقد الى ممارسة طقوسية لا تهدف إلى إحداث استنارة جماعية، بقدر ما تسعى إلى إشباع النرجسية الكامنة في الاعتراف الاجتماعي بمن هو الأقدر على "فضح" البنى الخفية للسلطة. وتتمثل النتيجة في مفارقة لافتة: فالتقليد النقدي الذي نشأ بدوافع تحررية أصبح اليوم يُعيد إنتاج ذات البُنى الهرمية التي سعى إلى تفكيكها، حيث تحوّل "فعل الاختراق النقدي" إلى غاية قائمة بذاتها، منفصلة تمامًا عن أي مشروع تحوّلي ملموس.

التحوّل الواقعي عند لاتور

يبلغ المأزق النظري الناجم عن إنهاك الخطاب النقدي أوضح تمثلاته في التدخّل المفاهيمي المفصلي الذي قدّمه برونو لاتور في عمله الموسوم: لماذا فقد النقد قوته؟، وهو نص يؤدّي وظيفتين مزدوجتين: ممارسة نقد-للنقد من جهة، واقتراح أنطولوجيا بنائية من جهة أخرى. يحدّد لاتور القيد الجوهري الكامن في المقاربة النقدية فيما يسميه ابستمولوجيا تحطيم الرموز iconoclasm،  أي نزعة الهدم الممنهجة التي تُدمن على التفكيك، فتقوم بعملية إنقاص مستمرة للكيانات من الحقل الأنطولوجي عبر نزع الهالة والتفكيك المتكرر. يقول لاتور "تحطيم الرموز هو جزء أساسي من مفهوم النقد. لكن ما الذي يُكسر بالمطرقة؟ صنم. فيتش fetish. فما هو الفيتش؟ شيء ليس له وجود بذاته، بل هو فقط الشاشة التي أسقطنا عليها عن طريق الخطأ أوهامنا وعملنا وآمالنا وشغفنا. "

وفي مقابل هذه التأويلية الارتيابية، يُقدّم لاتور بديلاً تأليفيا متجذرًا في الالتزامات المنهجية لنظرية شبكة الفاعلين، حيث يُستبدل منطق الطرح والإقصاء الذي يميز النقد، بممارسة تجميعية تركز على تتبع الارتباطات وإعادة تجميع الاجتماعي. فبدلًا من إزاحة الكيانات إلى خارج مشهد التحليل، يقترح لاتور أن تُؤخذ تلك الكيانات، بشرية كانت أو لا بشرية، مادية أو رمزية، بوصفها عناصر فاعلة في شبكة مركبة تستوجب الوصف بدقة لا الإقصاء بفعل الشك المسبق.

هذا "المنعطف الواقعي" لا يُمثّل تراجعًا إلى وضعيّة ساذجة، ولا انسحابًا من صرامة التحليل النقدي، بل يُجسّد تبنيًا لـ أنطولوجيا مسطّحة (flat ontology)، ترفض مسبقًا تراتبيات الكيانات وفق معايير قبْلية—سواء أكانت هذه الكيانات بشرية أو لا-بشرية، مادية أو خطابية، مفهومية أو مؤسساتية. ففي حين يُمارَس النقد التقليدي عبر فرضيات نظرية تُملي على الوقائع فئات مثل الأيديولوجيا أو الأبوية، يُفضّل لاتور أن تتبع الممارسة التحليلية آثار الفعل الشبكي الناشئة عن العلاقات المتداخلة بين الكيانات، بدلًا من فرض تأويلاتها من الخارج.

وتكمن النتيجة المنهجية في تحوّل راديكالي: من قضايا الحقيقة، التي يجهد النقد في تفكيكها وتفنيدها، إلى قضايا الاهتمام، التي تتطلب عناية تجريبية حذرة بكيفية تكوّن الوقائع ومركبّات الفعل الاجتماعي والعلمي حولها. وبذلك، يُعيد هذا المنظور توجيه الخطاب من تأويلية الكشف والتجريد نحو تجريبية تخمينية للتجميع، يكون التركيز فيها على وصف ما تفعله الكيانات وكيف تتضافر، لا على ما تخفيه أو تدّعيه ظاهريًا. وعليه، فإن هذا التوجه يقدم مخرجًا ممكنًا من حلقات النقد المغلقة على ذاتها، دون التضحية بما تبقى من طموح النظرية النقدية في إنتاج معرفة ملتزمة سياسيًا ومتحفّزة تحوّليًا. فالمطلوب ليس التراجع عن النقد، بل إعادة ابتكاره بوصفه ممارسة وصفية تركيبية قادرة على مواكبة تعقيدات العالم بدلًا من اختزاله إلى استجابات تأويلية نمطية. هذا المنهج يحوّل بوصلة النقد من مجرد فضح سلبي إلى وصف إيجابي، أي من التركيز على كشف ما ليست عليه الأشياء (كأوهام أو بناءات مصطنعة)، إلى فهم وتوضيح كيف تعمل هذه الكيانات، وكيف تتفاعل وتتعاون مع بعضها لتشكّل شبكات معقدة مترابطة.

نحو اداء ما بعد نقدي

تُقدّم اسهامات اليزابيث غروس النظرية بديلًا مُقنعًا للتأويلية الارتيابية، وتجسد ما يمكن وصفه بـالتحوّل البنائي في النظرية النقدية. ففي حين ينطلق النقد التقليدي من منطق النفي، عبر كشف الأقنعة وإزالة الغموض والتفكيك المستمر، تُبيّن منهجية غروس، لا سيما في كتابها The Nick of Timely الإمكان التوليدي لما يمكن تسميته بـالتركيب الإيجابي.

يشكل انخراط إليزابيث غروس مع فكر داروين مثالًا نموذجيًا لهذا التوجه النقدي؛ فهي بدلًا من رفض النظرية التطورية باعتبارها خطابًا جوهريًا بيولوجيًا أو أيديولوجيًا أبويًا (وهو الموقف النقدي السائد عادةً)، تقوم بإعادة توظيف استراتيجية داروين، مستخرجة من أطروحته حول "الانتقاء الجنسي" أدوات تحليلية جديدة تدعم الفكر النسوي وما بعد الاستعمار ونقد الرأسمالية عبر توفير آليات نظرية بديلة.

يتقاطع هذا المنظور مع مفهوم القراءة التصالحية الذي طوّرته إيف سيدغويك، وهو أسلوب تأويلي يركز ليس على تشخيص الضرر أو الأذى النصي، بل على استكشاف إمكانيات البناء والتجديد المفهومي الكامنة في النصوص. في هذا الإطار، تُعد أعمال إليزابيث غروس نموذجًا للكرم الإبستمولوجي، اذ لا يُختزل النص إلى مجرد بنيته السلطوية أو تحيزاته التاريخية، بل يُعاد تفكيكه بهدف إعادة توظيفه في بناء نظري جديد. فبدلًا من محاكمة داروين بناءً على مشاركته في أنساق أبوية، تركز غروس على تتبع الإمكانات الكامنة في نصوصه، وتعيد تشكيل مفاهيم مثل الاختلاف الجنسي والزمن واللاحتمية التطورية كأدوات تحليلية تخدم خطابًا تحرريًا وتعددياً.

ما يتجلّى من هذا النموذج هو شكل من الممارسة ما بعد النقدية، لا تقوم على نفي الخطابات أو استئصالها، بل على تفعيل قدرتها الكامنة على توليد أنماط معرفية بديلة. فمقاربة إليزابيث غروس لا تتنصل من المساءلة المعيارية، ولا تتجنب إصدار أحكام معرفية، بل تنطلق من إيمان بأن النظرية تمتلك قدرة أنطولوجية، أي القدرة على إحداث وقائع جديدة داخل فضاء الخطاب نفسه. ومن خلال التعامل مع النصوص ليس كأدلة تثبت البنى السلطوية، بل كمواقع تُنتج إمكانيات مفهومية غير متوقعة، تشير غروس إلى أفق جديد للنظرية النقدية، يتحول فيه إنهاك النقد إلى دافع لإعادة ابتكار أدوات التفكير، وإحياء دوره الخلاق في تشكيل المستقبل.

خاتمة

تفرض اللحظة النظرية الراهنة ضرورة إعادة تصور جذرية للممارسة الإنسانية، تتجاوز الهيمنة الراسخة للمقاربة النقدية نحو ما يمكن وصفه بـممارسة ما بعد نقدية. ويتطلب هذا التحول تفكيكًا منهجيًا للنفس الارتيابي المرتبط بالتفكيك، واستبداله بالتزام بالبناء التخميني، حيث لا يقتصر دور النظرية على كشف البنى الخفية فقط، بل يمتد إلى إنتاج نماذج جديدة للفهم.

ويجدر التأكيد على أن هذا المنعطف لا يُمثّل حنينًا ساذجًا إلى وضعية ما قبل نقدية، بل يُجسّد ما يمكن تسميته، وفقًا لبول ريكور بالسذاجة الثانية second naivety أي استعادة مفاهيم مثل الحقيقة والموضوعية والبناء، لا كمقولات دوغمائية، بل كأدوات نظرية أُعيد اختبارها وتشكيلها في ضوء إرث النقد، دون أن تظل رهينة للريبة المعطلة.

المشـاهدات 122   تاريخ الإضافـة 18/06/2025   رقم المحتوى 64010
أضف تقييـم