الأربعاء 2025/6/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
العراق… حين تنادي الحضارة أبناءها
العراق… حين تنادي الحضارة أبناءها
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د.لمياء موسي
النـص :

 

 

كاتبة مصرية

 

أعزائي قرّائي من شعب العراق، أحب أن أُبوح لكم بسرٍّ خطير:إني احترت حين أردت الحديث عن العراق. فهو ليس مجرد بقعة جغرافية على الخريطة، وليس فقط دولة ذات حدود وسيادة وعَلَم. العراق أعمق من ذلك… إنه حضارة ضاربة في أعماق الزمن، امتدت آلاف وآلاف السنين، وسكنت الذاكرة الإنسانية كأول من علّم الحرف، وأرسى القوانين، وبنى المدن. كيف أختزل هذا الإرث الهائل في مقال؟ بل كيف أصف حضارة كان العراق فيها هو البداية… بداية التاريخ، وبداية الكتابة، وبداية الزراعة، وبداية الدولة؟ كل زاوية منه تقود إلى عمقٍ آخر، وكل مفردة تُنطق باسمه تحمل ظل حضارة كاملة. وحيث النهران لم يكونا مجرد ماء، بل سطرين في كتاب الحضارة. في هذا الوطن، كُتب أول حرف في ألواح الطين، وسُنّ أول قانون على يد حمورابي، وارتفعت أولى المدن تنظيمًا، ونُسجت أولى الأساطير، واكتُشفت الزراعة والري والرياضيات والنجوم. في سومر، تعلّم الإنسان الكتابة، وفي بابل، تعرّف على القانون، وفي نينوى، قرأ العالم أولى المكتبات. لكن العراق لم يكن يومًا حكاية سهلة، فكما كان مهدًا للنور، كان ميدانًا للدم والدمار، وكم مرة سقط العراق؟ وكم مرة عاد واقفًا؟ كأن تاريخه نفسه تمرين على النهوض، ودرس للعالم في معنى البقاء رغم الجراح. منذ 2003، لا أحد كتب فيه فصلاً مشتركًا، وما كان ينبغي أن يكون انعتاقًا، تحوّل إلى تشظٍّ، إلى فوضى اقتسمت فيها الطوائف الخريطة، وكأن العراق صار غنيمة، لا بيتًا مشتركًا. وأصبح العراق لا يعرف استقرارًا حقيقيًا، حكومات تتعاقب، لكن لا وطن واحد يلتئم. أحزاب تتمسّح باسم الطائفة، لكنها تسرق قوت الفقير، وتبيع الأرض باسم الدين، حتى صارت المواطنة جريمة، والمذهبية وسيلة صعود على جثث الأحلام. صوت السُنّة، وصوت الشيعة، وصوت الكُرد، وصوت الأقليات المنسية… كأن كل طائفة كانت تُخبّئ في قلبها وجعًا مؤجلاً، فلما سنحت لها الفرصة، نطقت، لا بالكلمات فقط، بل بالدم. صار الأخ يشكّ بأخيه، وصار المسجد يحمل هوية، وصار الشارع، الذي كان ممرًّا عامًا لكل أبناء الوطن، مقسومًا بين لافتات الطوائف وشعارات الأحزاب. كأن العراق تفكّك، لا إلى محافظات، بل إلى خوف مقيم في كل بيت، وخريطة تتلوّن بألوان الدم والانتماء، لا التراب. الحرب الطائفية أكلت ما لم يأكله الغزاة، والتفجيرات، والخطف، والتهجير القسري، كلها صارت مشاهد يومية، كأن الجحيم فتح بابه في بغداد، والموصل، والبصرة، والرمادي، وكركوك وسواها. وكلما هدأ الجمر قليلاً، عاد ليشتعل بصيغة جديدة. لكن الجرح دائمًا… في قلب العراق نفسه. ففي قلب كل هذا الركام، ما زالت النهضة ممكنة. بل هي ليست خيارًا، بل واجبًا تاريخيًا. ما الذي يجعل وطنًا كهذا يعود كما كان؟هل يكفي أن ننسى الماضي؟ أم يجب أن نواجهه؟ هل يمكن للألم أن يتحوّل إلى حكمة؟ هل يمكن للدين أن يكون جسرًا، لا سكينًا؟ هل سيأتي يوم نقول فيه: كنّا طوائف… لكننا صرنا شعبًا؟ العراقي ليس غريبًا عن النهوض. لقد بنى أعظم حضارة وهو في قلب الطين والماء. هو مُبدع بالفطرة، ومقاتل عند الحاجة، ومفكّر حين تُمنح له الفرصة. لكن هذا الإنسان قد أُضعف طويلًا، بالقمع، وبالحروب، وبالطائفية، وبالهجرة، فإذا أردنا نهضة حقيقية، علينا أولاً أن نُعيد الثقة للإنسان العراقي، أن نحميه من الجهل، أن نمنحه التعليم، الكرامة، الحرية، أن نقول له: “أنت أساس البناء، لا حجر على هامشه.” ما من حضارة نهضت إلا وكان التعليم في قلبها، والعراق الذي خرج منه الخوارزمي، والجاحظ، وابن الهيثم، يستحق أن تُعاد فيه الحياة للمدارس والجامعات. نريد تعليمًا لا يُكرّس الطائفية، بل يُنبت عقلًا حرًّا، ويُخرج مواطنًا لا يُقسّم الناس حسب انتماءاتهم، بل يراهم إخوة في وطنٍ واحد. البترول، والمياه، والأرض الخصبة، كلها موجودة، لكن ما ينقص هو الإدارة، الإرادة التي تضع ثروات البلاد في خدمة الشعب، لا في حسابات الساسة والمقاولين. لو عاد العراق لزراعة أراضيه كما كان، لكفى شعبه بل وشعوبًا حوله. ولو أُدير النفط بعين مخلصة، لتحوّل من لعنة إلى مصدر نهضة حقيقية. لن ينهض العراق وهو مكسور على خطوط الطوائف. الوطن لا يُبنى بحساب السُّنة والشيعة والكرد والتركمان، بل يُبنى حين يشعر الجميع أنهم عراقيون أولاً، حين تكون الدولة للجميع، والحقوق للجميع، والقانون فوق الجميع. النهضة تبدأ حين يُزال الخوف من القلوب، ويُزرع بدله الإيمان بأننا شركاء في المصير. من يقرأ تاريخ العراق، يعرف أن النهضة ليست جديدة عليه، بل هي طَبعه، فكيف لمن خطَّ أول أبجدية، ألا يكون قادرًا على كتابة فصل جديد؟ الحضارة ليست أطلالًا نبكي عليها، بل جذورًا نحملها معنا ونحن نبني. العراق لا يجب أن يستورد فكرة النهوض، بل عليه أن يتذكر أنه مهدها.

المشـاهدات 63   تاريخ الإضافـة 18/06/2025   رقم المحتوى 64016
أضف تقييـم