النـص : في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزايد فيه التحديات الفردية والاجتماعية، تبرز المناسبات الدينية كأوقات استثنائية يعيد فيها الإنسان صلته بجذوره الروحية والاجتماعية. فهي ليست مجرد طقوس تمارس، بل محطات تعبوية تعزز من تماسك المجتمع، وتعيد إحياء الشعور بالانتماء المشترك، وتغرس في النفوس قيم التعاطف والتكافل هذه الأيام نستذكر فيها عاشوراء، ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، تتجدد أمامنا معاني الفداء والثبات على المبادئ، كما تتجلى صورة المجتمع المتماسك الذي يتوحد حول قيم عليا تعزز من صلته بتاريخه وهويته.من أبرز تجليات ذكرى عاشوراء في العراق وخارجه، هي تلك الروح الفريدة التي تسود الشارع والمجالس والبيوت: مواكب خدمية، مجالس عزاء، مبادرات إنسانية، تآلف اجتماعي عابر للطبقات والانتماءات.يتحول الحزن إلى حالة جماعية تفيض بالعطاء، حيث يُطعم الناس بعضهم بعضاً، ويتسابق المتطوعون في تنظيم الفعاليات، وتغلق الفجوات الاجتماعية أمام حرارة المأساة الحسينية. إنها لحظة تذوب فيها الفردية ويولد مجتمع متراصّ في وجدان واحد.هذه المناسبة الفريدة من نوعها تُعيد سرد قصة التمرد على الظلم والانتصار للحق، وهي بذلك لا تقتصر على البُعد العاطفي، بل تذكر الأفراد بأنهم جزء من تاريخ ممتد، ومصير مشترك. وركيزة من ركائز الهوية الوطنية والدينية، تجسد فيها القيم العليا بشكل جمعي، ينعكس على السلوك والتفاعل المجتمعي.
التكافل والرحمة في عاشوراء
يتجلى التكافل الإنساني في أبهى صوره خلال هذه الأيام من خلال الموائد التي تقام في الشوارع دون تمييز، خدمات طبية وتطوعية تُقدم دون مقابل، أحياء بأكملها تتحول إلى شبكات دعم مجتمعي.هذه المظاهر، المستمدة من روح الحسين (ع)، تعمق شعور الفرد بمسؤوليته تجاه الآخر، وتغرس في الوعي الجمعي أن بناء المجتمع يبدأ من القيم وليس من السياسات وحدها.ورغم ما تحمله عاشوراء من طاقة رمزية واجتماعية عظيمة، إلا أن خطر استغلالها لأهداف فئوية أو سياسية يظل قائماً، وهو ما يتطلب ترسيخ الوعي بأن هذه المناسبة هي مناسبة جامعة، لا تقبل التسييس أو التقسيم.ولابد ان يكون للمؤسسات الثقافية والإعلامية دور مهم في توجيه هذا الزخم نحو مشاريع توعوية وتربوية تعمق الانتماء وتفتح آفاق الحوار. وتزيد من وعي الجمهور بقدسية المناسبة واهمية احترامها اجتماعيا وذاتيا وعدم استغلالهم سياسيا من قبل بعض الجهات لمكاسب فئوية. ختاما.. عاشوراء ليست مجرد ذكرى، بل نهج حياة يُستلهم في مواجهة الظلم، وفي بناء مجتمع تسوده العدالة والرحمة والتكافل.
|