
![]() |
على ورق الورد مواهب مُهْمَلَة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : مما حكاه لي أبي رحمه الله تعالى , أن لي جدا كان يمتلك صوتا عذبا رخيما جعله معروفا بين أبناء قريتنا والقرى المجاورة لها في الجنوب , وقد توفّرت لجدّي فرصة الهجرة من الريف إلى بغداد في خمسينات القرن الماضي فقصد مقهى الفنان ناصر حكيم في علاوي الحلّة في بغداد وهذا المقهى معروف بتواجد المطربين فيه وتباري بعضهم بالأصوات والكلمات والألحان التلقائية الشجيّة التي كانت سائدة في حينها وكانت في غالبها ذات طابع ريفيّ , وحين أطلق شجى صوته في فناء المقهى التفت إليه المعنيّون وطلبوا منه أن يتقدّم للإذاعة العراقيّة وأن يساهم في حفلاتها التي كانت تبثّ آنذاك على الهواء مباشرة , لكن جدّي الآخر سمع بالأمر فقصد بغداد وأعاده الى الريف بعد أن وبّخه وقال له بالحرف الواحد : تريد تصير عارا علينا ! , وكأن الغناء والطرب عار ٌ ! .
حين كان والدي يتحدث عن جدي ذي الصوت الشجيّ , كان جدّي يعيش أيّامه الأخيرة , وكنت ُ أسأله بفضول عن الغناء وعن الذين غنّى معهم فكان يذكر لي روّاد الغناء العراقيّ , والذين كانوا ينظرون إليه وكأنه واحد منهم لرقة كلماته وعذوبة صوته , كما كان يلقي عليّ أبياتا من قصائد الأبوذيّة التي كان يغنيها وهي من تأليفه طبعا .
وهكذا رحل جدّي دون أن يترك أثرا معروفا سوى لمعارفه وأحفاده , فكان صوتا غنائيا موهوبا ضائعا .
أنطلق الآن من هذه الفكرة لأعبّر عن مواهب عديدة لفّها النسيان أو الإهمال أو قسوة الوضع الاجتماعي للبلاد , هذه القسوة التي جعلت من مطربة موهوبة تتنكر لتعلن صوتها باسم رجل هو مسعود العمارتلي وهذه القسوة التي أبعدت طاقات وكفاءات ظلّ غناؤها سرّيا لا فضاء له سوى الصمت ولا سامع له سوى القلّة القليلة , وربما كانت هذه القلة القليلة عبارة عن أدوات للمطبخ أو بقايا ذكريات حزينة من صور وجدران .
ولو تساءلنا الآن كم من الأصوات والمواهب ضاعت بسبب الحسّ الإجتماعيّ الخانق , فإننا لن نصل إلى عدد محدد , رغم علمنا بأن هناك نجوما في المجتمع اشتهروا بمجالاتهم لكنهم يمتلكون أصواتا شجيّة فقدها المستمع وفقدتها ساحة الغناء الأصيل المبدع .
لن أفشي أسرار أعرفها عن أصوات غنائيّة ضائعة , ولن أفتح جراحا على ضياع مواهب مختلفة لأسباب محزنة سببها عاداتنا وتقاليدنا , التي ما زالت تحكمها الكثير من المصدّات والحسابات الخاصة لكل عمل أو مكانة قد تخلّ بها وبشخصها مهنة ما ؟
الغريب في الأمر أن مواهب اليوم وفي الغناء تحديدا صارت تعاني إهمالا , بسبب جديتها في الغناء وعدم نزولها للمستوى الهابط للأغنية الراهنة التي لعبت بالذائقة سذاجة وسفها وابتذالا , تحت لافتة الجمهور يريد هذا اللون من الأغنيات التي تمتهن الكلمة وتستخف باللحن وتطلقها أصوات لا إبداع فيها ولا أحاسيس , إذن هو ضياع ٌ آخر "معولم" يختلف عن سابقه , ولكنّ الضياع هو الضياع والنسيان هو النسيان رغم اختلاف المجتمع وتغيّر الأساليب . |
المشـاهدات 100 تاريخ الإضافـة 21/07/2025 رقم المحتوى 64958 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |