
![]() |
حول التجربة السردية، للكاتب العراقي : حميد محمد الهاشم. |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
محمد الطايع
1 _ الأديب حميد محمد الهاشم، شاعر مُلهم، مبدع في صنف القصيدة النثرية الحداثية، وكاتب مجدد في جنس القصة القصيرة. نصوصه السردية المميزة، تستوقف القارئ ليعيش معه متعة الدهشة المضاعفة، وهو الحريص على التنويع في الثيمات والأنساق، مع إيمانه العميق برسالته الإنسانية، لأنه صاحب مشروع إبداعي قويم، ورؤية خلاقة تؤيدها إمكانات عبقرية ذاتية تجعله مختلفا عن غيره من الأدباء، غايته أن يضيف الكثير للمشهد الثقافي الإبداعي العربي الحديث. 2 _ نص القراءة. لمقالتي هذه، اخترت خمس نماذج قصصية قصيرة وقعت باسم كاتبنا حميد محمد الهاشم، وهي كالآتي : _ امرأة برية _ علامة فارقة _ من ليالي الهاوية _ولولا مخافة الإطالة، وددت لو أمكنني التحدث عن عشرات القصص الرائعة، التي زين بها كاتبنا حمبد صدر المشهد السردي العربي، وذاك أن كل سردياته، تحمل طابع انتمائها المتفرد له، جميعها مميزة وبارعة في استفزاز ذائقة وفضول القارئ. لذلك أقول : ان اختياري لهذه النصوص الخمسة خضع لمعيار التنويع في المضامين والثيمات التي يشتغل عليها أديبنا حميد محمد الهاشم. قبل أن نتدبر البؤر الأساسية للقصص موضوع المقالة، أرى أن من اللازم أن أشير أن الكاتب حميد محمد الهاشم، من أكثر كتاب القصة القصيرة المعاصرين غزارة وعنادا، وهو في ذلك عادل بين ميله للشعر وميله للسرد، الذي استقر اهتامي عليه كموضوع للتأمل والقراءة، لأقول أن الكاتب محمد حميد هاشم، في تجربته السردية، اختار وعن قناعة راسخة، التجديد على مستوى البنيات والرموز والدلالات، ومن أبرز تقنيات هذا الاختيار، تجاوزه بمهارة فائقة لتقاليد السرد الكلاسيكية، وذاك أنه متمسك بفكرة خلق الأنساق الجديدة، حتى لو اضطر لنبذ بعض تقنيات السرد المألوفة مثل التصاعد الدرامي، وتطور الشخصيات بالشكل التسلسلي البسيط، وذاك أنه يؤمن أن تطور البشر يأتي عبر مراحل حياتية كبرى، ورصد هذه التطورات هو ما يمنح القصص بعدا إنسانيا عظيما، وأثرا لما بعد القراءة لا يمكن الخروج منه بسهولة. هذا الشكل سوف يعتمد في بعض النصوص شكل السرد الدائري اللانهائي، وذلك ما سوف يبدو واضحا في قصته المميزة ( من ليالي الهاوية ) وهي منشورة ضمن كتابه القصصي، ( شارع أبيض.. نافذة سوداء ). من تقنيات الكتابة السردية المتبعة عند اديبنا حميد محمد هاشم، والتي تميز نصوصه عن غيرها، قدرته النادرة على القفز بين الأزمنة والأمكنة، من أجل ملاحقة الروابط الفعلية التي تصل بين ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، لتحل هذه الملاحقات المسافرة في طول الزمن وعرض المكان، محل الثيمة الدرامية التي تخضع لمنطيقة التتابع السهل الميسر والبسيط، تلك التقنية حقيقة أصابت عموم القراء بالملل، وبات واضحا أن السرد يشترط الآن من أجل الرقي به، بحثا عن طرق جديدة، أكثر إقناعا، وذلك عن طريق تعويض خطة مخاطبة القارئ بوضوح ومباشرة، بحيل أخرى تهدف لغاية التسلل إلى داخل نفسية القارئ وملامسة همومه بشكل أكثر عمقا. 3_ هنا نصل إلى مرحلة هامة بخصوص تصنيف نصوص الكاتب حميد محمد الهاشم، فنقول إنها قصص تتحدث عن الواقع، لكنها تفعل ذلك بلغة تجمع بين التجريد والتوازي والرمزية والتكثيف، دون إغفال البعد الفلسفي والسيكولوجي للشخوص، مع الخلفية التاريخية، والوقائع الكبرى، المؤثرة في تحديد خصوصيات الزمكان السردي. من الواقع تنطلق فكرة أكثر نصوص الكاتب حميد محمد الهاشم، باعتبار الواقع هو الباعث الأساسي لفكرة السرد، وذاك أن الواقع عموما هو المادة الخام لثلثي سرديات العالم، مالم يجنح الكاتب للأسطورة والفانتازيا أو اللوحة الفنية الخيالية أو السوريالية. وحتى لا يعتقد القارئ أننا نقف من هذه الأصناف الإبداعية، موقف الضد أو التبخيس، أو يتهم كاتبنا _ حميد محمد الهاشم، أمام من لم يسبق له التعرف عن قرب على تجربته السردية _ بضيق الأفق، وعدم القدرة على تطويع كل عوالم الأدب الجمالية، اخترنا قصة ( امرأة برية ) نموذجا ضمن النصوص الخمسة، لإبراز مدى قدرة هذا المبدع المتعدد، على التحليق أيضا وبنبوغ خارج حدود الواقع، وذلك ما حدث مع مشاهد استثنائية عجيبة مدهشة رسمت بفتنة ظاهرة، الروابط والرغبات الفطرية المتأصلة في ذوات البشر، والتي يجسدها ذلك الصراع / المعشوق، منذ الأزل بين الذكر والأنثى، حيث عمق النص أهمية الطرح الوجودي والفني الذي يمكنُ للكتابة الإبداعية مسرحته بالكلمات. ثم نعود للحديث عن باقي التصنيفات مثل الروايات التاريخية، أو روايات الرعب، الرومانسية، أو الخيال العلمي. فنؤكد أنها كلها تساهم في إضفاء صفات الجمالية الإبداعية على الأدب، بينما يبقى الواقع الظرف الأكثر اتساعا وتنوعا من كل عوالم الخيال، شرط ألا يزعم الكاتب المتماهي مع سيرته وواقعه ومشاهداته، أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، لأن البحث عن الحقيقة أسمى غايات الكتابة. وألا يكون الأدب مجرد محاكاة ساذجة للواقع، وذاك أن مهمة الأدب والفنون عموما، لم تكن لتحقق غايتها السامية، لو أنها ظلت مجرد وسلية لإعادة انتاج الواقع. الواقع، وكما حاوره كاتبنا حميد محمد الهاشم، مجال ثري للإسهام بالكلمة المبدعة، في تحقيق التراكم الكمي للنصوص الجيدة، وهو كفيل بتمكين مبدع حقيقي من طينة كاتبنا، من بلوغ غايات أسمى، منها فضيلة التصالح مع الذات وتحريرها من عقدة الذنب، كما سنرى ذلك في قصة ( لا وقت للحياة ) وذلك بعد الفصل في القضايا المعاشة، وقسوة التجارب وملابساتها، عبر سرد تفاصيل العيش المستعادة من قلب ذاكرة لا تنسى. لن يتوقف سعي الكاتب حميد محمد الهاشم، للتحقيق في هذه المجريات، عند حالة معينة، فهو أيضا ذلك المفكر المخلوق من عاطفة العرفان، والفخر بالهوية والانتماء، مما يفرض عليه تأكيد قيم الشجاعة الأصيلة، والوقوف موقف الرفض من الزيف، من أجل الاحتفاء بالبطولة، ولو من باب الاحتجاج الصامت _ كما جاء في قصة ( علامة فارقة ) _ على ما يطال سيرة النبلاء من تزوير، وما يعانيه الأبرياء من قهر، وما يربك الفهم الحر، ويخلخل معايير التمسك بالحرية، مفهوما، وممارسة.. وهنا تكمن إحدى دلالات عبقرية الكاتب حميد محمد الهاشم، لأنه تمكن من بعث روح قيمة الشهيد الحقة من خلال استنطاق سردي للصورة الصامتة، فأضحت رغم تراجع زمنها الحقيقي نحو الوراء، وسيلة لفضح سيرة الفساد، ومباركة المواقف العظيمة. مثل هذه البراعة طبعا لن تؤتى لكاتب، مالم يتمتع بمخيلة حكائية جامحة. 4_ النصوص الخمسة المختارة 1 _ ( امرأة برية ) جموح المخيلة. ( الأسطورة المستحدثة في هذه القصة القصيرة، أسطورة جديدة أنشأت بمعايير مخيلة الكاتب، كما أنها تعمل عمل التناص مع أساطير أخرى عالمية ) بأسلوب سردي يمتاز بالخفة، والسرعة، ترسم ريشة الكاتب، مشهدا أسطوريا، يحاكي لوحة تجريدية، في مجملها تخلق الدهشة وتستفز المشاعر المكبوثة، حيث يتجسد الصراع الأزلي بين الرجل والمرأة / الشعوب القوية، والشعوب الضعيفة التي لا تملك حلا سوى حمل السلاح، من أجل الثأر لما سلب منها، وكيف تكافح الأمم البدائية لرد اعتبارها أمام هيمنة الشعوب المتغلبة / الرجل على هيأة محارب روماني قديم، يرمز للكائن العنيف الدموي منذ أقدم عهوده، ومن صفاته أنه لا يتذكر ضحاياه، فلا شيء يهمه إلا احتلال المزيد من الأراضي والأجساد، والمرأة على هيأة محاربة من أمة الأمازونيات، اللواتي يجسدن رغبة الإناث في الاستقلال عن الذكور، لولا أنهم يمثلن الغواية أيضا، وكأن أقوى مهارات وأسلحة الأتثى، قدرتها على إغواء الرجل، ثم تتخذ المعركة شكل العلاقة الحميمية، وتختفي الفوارق بين اللذة والألم، الكر والفر، الطعن والنزف، لتشهد هذه المعركة على ما لا يمكن الفصل فيه سواء تعلق الأمر بذروة الصراع، أم بمقدماته وخلفياته النفسية والتاريخية. حتى يتضح للمتأمل أنها لا نهائية، وأن النصر والهزيمة نسبيان، وأن كل كائن على هذه الأرض، يمارس جموحه وشغفه من زاوية رؤيته الخاصة، مهما تشابك مصيره بمصير غيره. * وللتنوير هذا مقتطف من مشاهد قصة ( امرأة برية.) [ الآن الثأر..، يخذلني حصاني فأسقط أرضا، كما سقطتْ هي أرضا ؛ لأني خدشتُ جوادها، لكن كلا الجوادين نهضا ودارا حولنا بعاصفة من تلك الرمال. أنا روماني الموطن، عارٍ تماما الاّ من تلك القماشة ، ألفّها حول جذعي. هي بذراعين عاريتين، نصف ثدييها مغطى بدرع من جلد مخطط بين أسود وأبيض، البطنُ عارٍ..فيما قطعة جلد أخرى بثنياتها تصل لنصف فخذيها، تسكن الغابات، أظن ذلك ،ولهذا لفّتْ على ساقيها أوراق نباتات وأغصان رفيعة. ها نحن نتقاتل. ] 2 _ ( علامة فارقة ) محاكمة الضمير الجماعي ) ( تعتمد هذه القصة على تقنية توازي أزمنة السرد، وتقابل زمن الموتى الأحياء في ذاكرة البطولة، وزمن الأحياء الأموات في حاضر التظاهر بالوطنية، حاضر المحاسبة الأولى، قبل المحاسبة الكبرى، حيث النار والجنة. رمزية البطولة تختزلها صورة شهيد معلقة في متحف الشهداء، ورمزية الخيانة يختزلها صديقه الجبان المرابي الثري من الفساد والسياسة ) إنها قصة جوهرة، تحفة نادرة في عالم السرد القصصي القصير، لغتها ملك خاص بها، تداعيات الزمن الماضي، زمن الثبات على المبدأ والوقوع في يد السلط الآثمة. وهذا الشهيد ليس وحده، مثله كثيرون اختطفوا ضاعوا، حرفت سيرهم، ثم أصبح الجبناء أوصياء على ميراثهم، بعدما هربوا خارج الوطن، وأسقطوا من حسبانهم كل القيم. والآن في الزمن الحاضر تخبرنا الصورة المعلقة أنها وجدت صعوبة في تذكر هذا الكائن المسخ، الذي يدعي أنهما كانا صديقان، حيث يأكل الندم ما تبقى من فؤاد صاحبه الخبيث، أما القلب الحقيقي فقد ابتعلته الخيانة، ولذلك فشلت روح الشهيد في التعرف عليه، لأن شهداء الوطن لا يتعرفون على البشر من ملامح الوجوه، بل من خلال القلوب، وذاك أن القلب، هو ما يميز إنسانا عن آخر، أما الوجوه فإنها في الغالب تبدو متشابهة، وسط كل ملابسات سيرة البشر ، يظل القلب هو العلامة الفارقة. * للتنوير هذا مقتطف من قصة ( علامة فارقة ) [ أنا أرى الجميع في هذه القاعة المليئة بالجميع. نصفهم أموات ،نصفهم الآخر على قيد التأمل لما هو معلّق ما فوق الجدران..صور كثيرة ،ربما بقدر المجازر الجماعية ، الأنين والحنين والحشرجات والآهات تتعالى في هذه القاعة ، قاعة الشهداء ، الشهداء ممن لم يعودوا إلى ذويهم، لاخبرَ، لاجثمانَ، لا عزاء ، السكوت قبل ثلاثين عاماً مع حبس الأنفاس علامات العزاء العلنية، ومن يخرق السكوت ولو بدمعة يلتحق بهم.] 3 _ من ليالي الهاوية ( العالم في عين الحقيقة ) ( هنا تغيب الحبكة السردية، ويحضر سرد الحقيقة، بالصيغة الوحيدة التي يمكن أن تلاحق الوقائع الحاسمة من خلالها، ويتم تأطيرها بإطار من الوعي الخالص، إنها الحقيقة المطلقة، حقيقة الأقنعة التي لا نعرف حقيقة إن كانت أقنعة، أم أن الوجوه خلقت على شكل أقنعة، ما دامت مؤبدة الالتصاق بالبشر، حتى أضحى ظاهرها هوية، ولأن الأسماء مجرد حالة تمويه عابر، وكذلك أزمنة العالم، وتشابه أمكنته، باتت كل الظروف مسرحا متكررا لللا معنى ، وخواء التعابير، وسقوط قيم الحرية، والذوبان في فوضى المصالح الخاصة، ثم إن حال هؤلاء الذين يحجبون قلوبهم وارواحهم سعادتهم وأحزانهم، طموحاتهم ومخططاتهم خلف الأقنعة، في حياة أشبه بكرنفال اختلط ليله بنهاره، فقدوا حاسة الإبصار، والشعور بالوقت، والتمييز بين الليل والنهار، كأنهم على صعيد واحد، يجسدون أبشع صورة للقيامة، كأنه لا أنساب بينهم، لا قيمة لاختلافات جوهرية، والأخطر أن الحقيقة لن تأتي، لأن لعنة التنكر ورثت جيلا عن جيل، وكل فصول التاريخ، أشبه بخروج من مرحلة الصفر، من أجل دخول مرحلة الصفر الأخرى.. وهكذا.. قصة ( في ليالي الهاوية )، صرخة بالغة الصدى، دونها قلم كاتب عبقري، يؤمن أن الأدب مهما كان غاية فهو أيضا وسيلة، وسيلة لفهم غموض العالم، وكشف الحجب عن سر اتصاف الأسئلة الوجودية والإجتماعية بأنها عالقة في حلق القبض على جوهر التواجد والتجمع لغايات شتى متداخلة، والتشابه السطحي البغيض، وكأن الغايات هي ما يحدد القيم، في نص سردي قصصي قصير استطاع الكاتب حميد محمد الهاشم أن يضع الإنسان أمام فراغ محتواه، وعبثية سيره، وقسوة انحيازه للظلام. * للتنوير هذا مقتطف من قصة ( من ليالي الهاوية ) [ هكذا دخلوا الليلة العمياء، لا بصيرةَ في النوايا، والرغبات الطيبة صدئة، هل كان في خَلِدهم إن ليلتَهم ستكونُ أطول من ليلتهم، ربما كانوا ينتظرون فجرَ الحقيقةِ الذي لمْ يُبالوا بمجيئهِ، إذ بشعورٍ أو بلا شعورٍ أُسْتدِرجِوا إلى وادي الأقنعةِ، لكنهم انتعشوا أشدّ الانتعاشِ في ذلك الليلِ التنكري الأعمى والأزياء العمياء، كانوا فرحينَ وليس ثمةَ رغبة بالعودةِ، فلم يطرقْ أيٌّ منهم قلبَ الصالةِ الراقصةِ بأستفهامٍ فقير.."هل نحنٌ متنكرونَ حقاً؟!! ] وقبل أن أختم هذه المقالة، لا بد أن أشير، إلى القيمة الحقيقية لإبداع حميد محمد الهاشم، والتي أشرت إليها سالفا، وذلك عبر استخلاص ما أوصلتنا إليه قصة ( لا وقت للحياة ) تلك القصة التي لن تمكن قارئها من مفاتيحها العليا بسهولة، لكن مما لا شك فيه أنه سوف يتأكد بعد الخروج منها، أنها حركت فيه قلق وحرقة السؤال، وذلك في حال تدقيق ومساءلة مؤلمة، لنعرف مثلا متى كنا مذنبين فعلا؟ متى كنا على صواب؟ وهل تليق بنا صفة البطولة في موقف معين؟ مع تزامن تدبرنا لمشاعرنا، التي كانت السبب في صياغة وجهات نظرنا؟ فنتساءل أحيانا، هل يمكن اعتبار خوفنا حكمة؟ هل كان صمتنا جريمة؟ هل كان غيابنا خذلانا؟ أم أن إكراهات الظروف الصعبة التي حاصرتنا، هي من شوهت نقاء الكائن البشري فينا؟ وفرضت عليه الانسلاخ عن قيمنا المثالية؟ |
المشـاهدات 40 تاريخ الإضافـة 13/08/2025 رقم المحتوى 65661 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |