الأحد 2025/8/17 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 38.95 مئويـة
نيوز بار
كيف يحكم العراق أجياله دون أن يعرفهم؟
كيف يحكم العراق أجياله دون أن يعرفهم؟
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب سيف الحمداني
النـص :

 

 

 

في العراق، يُولد الجيل ولا يُكتب له أن يُقرأ. لا مرآة يرى فيها ملامحه النفسية ولا صوتًا يتعرّف عبره على صورته الاجتماعية. يكبر العراقي بين الأزمات ويشيخ بين الأسئلة المؤجلة، وكأن قدره أن يبقى فردًا في جمهرة، وجمهرة في فراغ.جيل الميلينيال، وهم من وُلدوا في الثمانينات حتى منتصف التسعينات، يقطعون اليوم أشواطهم الثلاثينية أو يلامسون الأربعين، ولم يسألهم أحد: من أنتم؟ لا المؤسسة التربوية رسمت ملامحهم، ولا الدولة وضعت لهم سياسة، ولا المجتمع أدرك أن أبناءه ليسوا نسخًا مكررة من الماضي. هذا الجيل ليس سهلًا ولا واضحًا، فقد وُلد في ظل الحروب، وشبّ على وقع الحصار، ثم استقبل العشرين من عمره على دوي الاحتلال، وها هو اليوم يتأمل الخراب ويحمل في يده شهادة جامعية وفي الأخرى شهادة ضياع.ليس مصطلح "جيل" هنا مصادفة لغوية أو قالبًا عمريًا محايدًا، بل هو بنية نفسية واجتماعية تشكّلت في بيئة معينة، وانطبعت بتجارب سياسية واقتصادية وثقافية خاصة. فحين نقول "جيل الميلينيال"، فإننا نتحدث عن عقلية خضعت لتحولات كبرى، تبدأ من تربية مشوّشة في ظل نقص الحاجات الأساسية، ولا تنتهي عند صدمة الانفتاح المفاجئ على العالم بعد 2003. إنها عقلية التناقض، تبحث عن وطن وهي تشك في وجوده، تحنّ إلى القيم وهي لا تجد تطبيقًا لها، ترغب بالتغيير لكنها مشروخة داخليًا.لكن العراق لا يدرس أجياله، لا في وزاراته، ولا في جامعاته، ولا حتى في إعلامه. لا توجد لدينا وحدة بحثية دائمة تُحلّل التحولات الجيلية، ولا وزارة تُفكر بجيل لا يحضر في صناديق الاقتراع ولا يُشارك في الولائم السياسية. ومن هنا تزداد الفجوة بين من يحكم ومن يُحكم، بين من يُقرّر السياسات وبين من تُطبّق عليه.هذا التجاهل لا يقع في العراق وحده، لكنه يبدو أكثر فجاجة هنا، لأن دولًا عديدة من الشرق والغرب جعلت من دراسة الأجيال علمًا مستقلًا واستثمارًا مستقبليًا. كوريا الجنوبية على سبيل المثال أطلقت برامج تحليل سلوك الأجيال ضمن رؤيتها التعليمية والاقتصادية. ألمانيا تتابع بدقة تحوّلات القيم لدى الشباب وتأثيرها على العمل والسياسة. أما في كندا، فإن فهم الجيل لا يُعد ترفًا، بل قاعدة تُبنى عليها الحملات الانتخابية، وخطط الإسكان، وتوزيع الدعم.بينما في العراق، ما زالت البحوث التربوية تمتح من قوالب الخمسينيات، وتُقاس ثقافة الشباب بعدد الحضور في المحاضرة لا بعدد التساؤلات في العقل. والنتيجة أن الدولة تتعامل مع جيل جديد بعقل جيل قديم، والمجتمع يطلب الطاعة من شباب يطلب الاعتراف، والإعلام يبيعهم شعارات لا تصمد أمام أول لحظة وعي.وإذا كان جيل الميلينيال قد تُرك دون قراءة، فإن الجيل الذي يليه – المعروف اصطلاحًا بجيل Z، وهم من وُلدوا بعد عام 1997 – يُولد الآن في عالم بلا حبال، بلا يقين، بلا نماذج واضحة. إنه جيل الهاتف الذكي، والتطبيقات، والوعي اللحظي، يعيش الواقع بعيون رقمية ويعبّر عن نفسه دون وسطاء. لكنه أيضًا جيل هش، متوتر، تسكنه الوحدة والقلق واللاجدوى، يطلب الأمان في زمن الاضطراب ولا يعرف كيف يبنيه.في هذا الفراغ، تظهر الحاجة العاجلة لإعادة النظر في فهمنا للأجيال، لا بوصفها مراحل عمرية، بل ككائنات اجتماعية تحتاج إلى من يُصغي لها بجدّ. ليس المطلوب أن نكتب تقارير إنشائية أو نُطلق مشاريع موسمية بتمويل أجنبي. بل نحتاج إلى مؤسسات تُخاطب الجيل بلغته، لا بلغة وصاية. نحتاج إلى إدخال علم تحليل الأجيال في المناهج الجامعية. نحتاج إلى إعلام يروي حكايات هذا الجيل كما هي، لا كما يريد المسؤول أن يراها. ونحتاج قبل كل شيء إلى حكومة تدرك أن الشاب الذي لا يفهمها لن يصبر عليها، وأن الجيل الذي لا يُعطى فرصة للتعبير، سيأخذها ذات يوم بطريقة لا يمكن ضبطها.قد لا تكون الحلول سهلة، لكن أول أبوابها هو الاعتراف بوجود المشكلة. أن نعرف أن لدينا فجوة، أن نؤمن بأن الأجيال تتغير لا لأنها متمردة، بل لأنها ببساطة تعيش زمناً آخر. وعندها فقط، يمكن أن يبدأ الحوار الحقيقي، لا بين فرد ودولة، بل بين زمن وزمن.

المشـاهدات 47   تاريخ الإضافـة 15/08/2025   رقم المحتوى 65696
أضف تقييـم