الإثنين 2025/8/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
كأنها لوحة حبر تأملات في قصيدة "تأمّل كثيرًا" للشاعر عبد الهادي عباس
كأنها لوحة حبر تأملات في قصيدة "تأمّل كثيرًا" للشاعر عبد الهادي عباس
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

ناظم ناصر القريشي

في قصيدته "تأمّل كثيرًا"، لا يكتب الشاعر عبد الهادي عباس نصاً عابراً من الوصايا أو التأملات، بل يفتح بوابة إلى حالة وجودية عميقة، تشبه طقسًا صامتًا من طقوس التأمل الشرقي، تصير اللغة نسيمًا داخليًا، ويغدو الشعر مأوى للروح، لا مجرد وعاء للعبارات، بل للروح نفسها. هذه القصيدة، رغم قصرها الظاهري، تنبض بثقل رؤيوي، وتستدعي قراءة متعددة الأبعاد، تأملية، بصرية، موسيقية، وسينمائية.

 

أولًا: اللغة المتحركة – من الداخل إلى الأفق

القصيدة تتوسل لغة لا تستقر، بل تتحرّك في تصعيدٍ داخلي هادئ: من التأمل، إلى الصبر، إلى الإنصات، ثم إلى انفتاحٍ كلّي على الطبيعة والكون. إنها لغة فعل داخلي، لا تصف ولا تحكم، بل تقود:

"تأمّلْ كثيرًا

ولا تكترثْ للضجيجِ

ولا تلتفتْ..."

كل سطر هنا لا يُكمل الذي قبله فقط، بل يدفعه للأمام. وكأن اللغة نفسها تنمو، تُولد من ذاتها، وتغادر جلدها في كل خطوة.

ثانيًا: الانفصال اللغوي وبنية الجمل المنفصلة

بنية القصيدة لا تقل أهمية عن مضمونها: كل سطر منفصل، قصير، مستقل نحويًا، كأنه لبنة في بناء روحي. هذا الأسلوب، المعروف في النقد الحديث بـالقطع الشعري أو "الانفصال اللغوي"، لا يُستخدم للإبهار، بل كأداة تأملية. كل جملة تُعطى مساحة لتتنفس، تمامًا كالفراغ في اللوحة الآسيوية. وعندما يقول الشاعر: "تأمّلْ كثيرًا / ولا تكترثْ للضجيجِ"، فإن الانفصال بين الجملتين ليس مجرد توقف نحوي، بل تمثيل بصري للانفصال الذهني عن العالم الصاخب. اللغة هنا لا تسير بخط مستقيم، بل تقفز من لحظة إلى لحظة، كخطوات على حجارة نهر — كل واحدة تُثبّت القارئ قبل أن ينتقل إلى التالية.

ثالثًا: الشفرة الإبداعية – الشعر ككود تأملي

القصيدة مشفّرة بطبقات رمزية شفافة، لا تحتاج إلى تأويل تعسّفي، بل إلى إنصات ذوقي. "الضجيج" هو العالم الخارجي، الزائف، السطحي. و"التأمل"، "الصمت"، "الشعر" هي رموز لعالم داخلي هادئ، أصيل. أما "الفراشات" و"البياض" و"الواحة" فهي إشارات لرؤية كونية متسامية، حيث يتحوّل الشعر إلى حامل للنور، واللغة إلى وسيلة عبور.

"ستأتي الفراشاتُ زاهيةً بالحضورِ

وتطرق قلبَ الفضاءِ

لتحملَ هذا البياضَ الجميلَ

إلى واحةٍ وسعت كلّ شيء..."

القصيدة هنا لا تُفكك، بل تُفتح. والشاعر لا يكتب خطابًا، بل يبني شيفرة وعي.

 

رابعًا: الواو كروح النص – التراكم، والاتصال، والتنفس

من أبرز المفاتيح الإيقاعية والتركيبية في القصيدة هو حرف الواو، الذي لا يؤدي وظيفة نحوية فحسب، بل يتحول إلى نبض لغوي:

"وكنْ واثقًا وصبورًا

واجعلِ الشعرَ مأوى

وكنْ يقظًا...

واركب الأفق..."

الواو هنا تعمل كـ مفصل عضوي بين الأفعال، تُسلسِل البناء النفسي للشخصية الشعرية دون انقطاع. إنها توصل، لكنّها لا تكدّس. تفتح المعنى، ولا تغلقه. الواو ليست أداة جمع، بل وسيلة استمرارية في التحول الذاتي.

 

خامسًا: القراءة التشكيلية – قصيدة كلوحة مائية

من الناحية البصرية، تشبه القصيدة لوحة حبر صينية أو يابانية، حيث تتقدّم العناصر التشكيلية بهدوء:

• البياض = الصفاء

• الفراشات = الحركة الخفيفة

• الفضاء = الاتساع الداخلي

• الضفاف والمطر = التحوّل الطبيعي

لا ازدحام، لا كثافة شكلية. فقط ضربات لغوية ناعمة كفرشاة على ورق أرزّ. القصيدة تتنفس فراغاً. والفراغ ليس غياباً، بل جزء من التكوين، تماماً كالفنّ الآسيوي الذي يرى أن ما لا يُرسم هو ما يجعل اللوحة تتنفس. وكما في فن الرسم الياباني، لا تُحاط الأشياء بالأطر، بل تُترك "مساحة الفراغ" لتقول ما لا يُقال. هذا الفراغ هو الجوهر غير المرئي في القصيدة، حيث يصير الصمت شكلاً آخر من أشكال النطق، والغياب حضورًا أعمق من الكلمات.

وكأن القصيدة لا تُقرأ من اليسار إلى اليمين، بل من الداخل إلى الخارج — كحركة تنفّس أو دائرة ماء تتسع بهدوء، كما في لوحات الزِن التي لا تبدأ من نقطة، بل من صمتٍ يتحوّل إلى أثر.

 

سادسًا: القراءة الموسيقية – القصيدة كلحن داخلي

رغم غياب الوزن التقليدي، تتحرك القصيدة بإيقاع داخلي ناعم، تُشكّله:

•       تكرارات الأفعال ("كن، كن، وكن...")

•       إيقاع التراكم الحالم

•       رخاوة الأصوات ونعومة الجمل ("الفراشات"، "البياض"، "الواحة")

القصيدة تُمثّل نغمة منخفضة لكنها مستمرة، تُشبه خلفية موسيقية في مشهد تأملي: لا تسمعها مباشرة، لكنها تشكّل الجوّ بأكمله.

 

سابعًا: القراءة السينمائية – القصيدة كفيلم صامت قصير

البنية السردية للقصيدة تُشبه ما يُعرف في السينما بـ "المشهد–الواحد المستمر" (long take). الكاميرا لا تقطع، بل تسير:

•       أولًا: لقطة داخلية – شخص صامت يتأمل

•       ثانيًا: الفراشات تدخل، تُحدّث الفضاء

•       ثالثًا: الكاميرا تتّسع، ونتابع النهر والمطر من بعيد

"ونمضي لمنعطف النهرِ

بين الضفافِ

وتحتَ المطر..."

النهاية مفتوحة، تمامًا كالمشهد الأخير في فيلم ياباني صامت، حيث لا تُقال الحقيقة، بل تُلمَح وتُعاش.

تسير الكاميرا كما يسير التأمل: ببطء، دون استعجال النهاية، لأن الغاية ليست المشهد الأخير، بل ما يكشفه الطريق من خفّةٍ وبياض.

وأيضًا… ماذا بعد؟

حين تنتهي القصيدة، لا تنتهي الرؤية.

فهذا البياض الذي تُحلّق فيه الفراشات لا يُغلق على صورة واحدة، بل يظلُّ مشرعًا على احتمالات الوجود.

إنها قصيدة لا تُختَتَم، بل تُدعوك لتختتمها أنت. أن تُكملها بصمتك، بحركتك، بنظرتك الجديدة للعالم.

"ماذا بعد؟"

بعد الفراشات، قد تأتي الريح.

بعد الضفاف، قد يتّسع النهر ليصير بحرًا.

وبعد كل هذا التوق، قد لا يبقى إلا الذهاب… دون رجوع، لا لأن النهاية ضرورية، بل لأن الشعر ليس نهاية، بل تحوّل دائم.

هكذا تُشبه هذه القصيدة لوحة شرقية مرسومة بضربة فرشاة واحدة، تُوحي بما لا يُقال، وتترك مساحة للقارئ كي يُكمل الرسم… داخل نفسه.

 

ثامنًا: الشعر كصمت واعٍ – من اللغة إلى ما وراءها

ما يميز هذه القصيدة ليس فقط ما تقوله، بل ما تصمت عنه. فهي لا تشرح، ولا تبرر، ولا تغلق معناها. بل تُحافظ على نوع من الصمت الواعي الذي يشبه تأملات الزِن Zen:

صمت لا يعني الغياب، بل حضورًا أعمق من القول.

فالشاعر لا يمنحنا جوابًا، بل طريقًا.

لا يُعلّق على العالم، بل يدعونا لنراه دون تعليق.

حين يقول:

"وكن صاغيًا حالِمًا

واركب الأفق

ثم انطلق..."

فهو لا يحدّد الوجهة، بل يحرّر الحركة. وهذا هو جوهر الشعر كفعل وجودي:

أن يُعيد إلينا حريتنا الأولى، حريتنا في أن نكون أنفسنا، في صمتٍ لا يُفسَّر، وبياضٍ لا يُؤطر، وتأملٍ لا يُنهي ذاته.

بهذا المعنى، تبدو القصيدة وكأنها ليست مجرد تجربة لغوية، بل تدريب داخلي على الحياة نفسها.

 

خاتمة: الشعر كفن شامل

"تأمّل كثيرًا" ليست قصيدة تعليمية، ولا توصيفيه، بل كيان فني هادئ يتجاوز اللغة.

هي أشبه بلوحة مائية آسيوية تتحرك كفيلم، وتتنفّس كقصيدة موسيقية.

فيها تُصبح اللغة مأوى، والبياض إشارة، والواو نبضًا، والتأمل فنًّا من فنون العيش.

عبد الهادي عباس لا يكتب "شعرًا عن الحياة"، بل يُمارس الشعر كطريقة للحياة.

تمامًا كما يُرسم الغصن الوحيد في اللوحات اليابانية: قليل الخطوط، كثير المعنى.

 

النص

تأمّلْ كثيراً

ولا تكترثْ للضجيجِ

ولا تلتفتْ..

وكنْ واثقاً وصبوراً

انيقاً بعيداً عن الثرثرة

واجعلِ الشعرَ مأوى

وكنْ يقظاً من العثراتِ

ولملم بقايا السطورِ

وكنْ صاغياً حالماً

واركبِ الافقَ

ثمّ انطلق...

ستأتي الفراشاتُ زاهيةً بالحضورِ

وتطرق قلبَ الفضاءِ لتحملََ هذا البياضَ الجميلَ

الى واحةٍ وسعت كلّ شيء...

ونمضي لمنعطف النهرِ

بين الضفافِ

وتحتَ المطر...

المشـاهدات 34   تاريخ الإضافـة 18/08/2025   رقم المحتوى 65766
أضف تقييـم