النـص :

سمر شمة
تشهد الساحة السورية على المستوى الفني والثقافي والمسرحي محاولات عديدة خجولة من أجل النهوض بعد توقف شبه تام للمسرح السوري خلال سنوات الثورة السورية ونشوب حرب وحشية شنّها النظام الأسدي البائد وحلفاؤه على الشعب السوري الذي نادى بالتغيير وبحياة حرة كريمة، وحاول قبلها على مدى عقود ترويض الفن والثقافة لمصلحة روايته الرسمية واستمراره في الحكم ولو على جثث وأعمار السوريين وأنقاض المدن والبلدات السورية.ولأن المسرح كما قال المسرحي الكبير سعد الله ونوس "ليس مجرد فن، بل هو ظاهرة حضارية تتطلب تضافر الإرادات الطيبة لحمايتها والمحافظة عليها"، يبذل بعض الفنانين جهودًا كبيرة لإعادة هذا الفن إلى المشهد العام وخشبات المسرح السوري، بعد انتكاسة كبيرة شهدتها البلاد على الأصعدة كافة، وبعد هجرة المسرحيين والكوادر المختلفة وسيطرة الرقابة المشددة على النصوص والتجارب الفنية والثقافية بقبضة أمنية أكثر وأشد من أي وقت مضى.وضمن هذه المحاولات افتتح المسرح القومي بدمشق التابع لمديرية المسارح والموسيقى أول عرض له بعد سقوط النظام على مسرح الحمراء بعنوان: "آخر ليلة. أول يوم" والذي شهد حضورًا لافتًا وازدحامًا شديدًا لرواد "أبو الفنون" وخصوصًا من فئة الشباب والشابات.المسرحية من تأليف جوان جان، بطولة رائد مشرّف، وهو مخرج العمل أيضًا، والفنانة عهد ديب. وهي لم تتعرض في حكايتها - كما ينتظر المتلقي- إلى سورية وما آلت إليه بعد الثورة وبعد سقوط النظام. ولم تناقش آلام السوريين وأوجاعهم وتضحياتهم ومعاناتهم وافتقادهم لأدنى مقومات الحياة، والخراب الذي سيطر على حياتهم ومدنهم، وقراهم، وديكتاتورية النظام وقمعه الوحشي للحريات واستباحته لحقوق الانسان، وارتكابه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. بل تناولت في مضمونها قصة، ليست جديدة على الأعمال الفنية المسرحية والتلفزيونية، تمحورت حول دراما الحياة اليومية والعلاقات الزوجية وما فيها من خلافات وأزمات وتناقضات. قضية اجتماعية تتكرر في كل بيت وعند مختلف الشرائح الاجتماعية.استمر العرض لمدة ساعة، ودارت أحداثه في منزل بسيط تخيّم عليه ملامح الفقر والوحشة والشحوب، وذلك بسبب اضطراب العلاقة الزوجية بين الزوجين (منى ووسام). وبدأ العرض بمشهد احتفالهما بذكرى زواجهما الخامسة، والتي ستتحول إلى شجار عنيف يجبرهما على استحضار الماضي والتذكير بالأفعال والتصرفات غير القابلة للمغفرة ارتكبها كل منهما بحق الآخر، مما يبقي الخلاف قائمًا على أشده حتى موعد الاحتفال بذكرى زواجهما التالي، حيث يعودان للاحتفال وتناسي الخلافات وينتهي العرض.الزوجان شرعا في تقليب الماضي، والتذكير بالطبقة الاجتماعية التي جاء كل منهما منها، فيما العاصفة خارج المنزل تمنع المحتفلين من الحضور. في هذا العرض يهين الزوج زوجته المثقفة الكاتبة ويضربها مما يجعلها في حالة انهيار عصبي تدفعها لتمزيق كل ما كتبته من نصوص، ثم تغادر المنزل بعد طردها منه، لتظهر مجددًا وهي تستعد للاحتفال بعيد زواج آخر ويكون المشهد الختامي هو نفسه مشهد الافتتاح.عالجت المسرحية قضية المرأة المثقفة الطموحة التي تسعى لإثبات نفسها وتفوقها على زوجها وأن تصبح كاتبة تلفزيونية مشهورة، ولكنها لا تستطيع تحقيق ذلك بسبب الاستغلال الذي تتعرض له في الوسط الفني كأنثى ولا تقبل به أبدًا. هذه المرأة تضطر للعودة إلى بيت زوجها بعد إهانتها وطردها منه كجارية، إضافة إلى أزمة الرجل الشرقي العصابي والعنين الذي لا يُنجب والموتور الذي يبرّر لنفسه ما لا يسمح به لزوجته أبدًا. ولكن ورغم ذلك كله دعا العرض المسرحي للحفاظ على المؤسسة الزوجية واستثمار الحب واللجوء إليه في اللحظات الصعبة، لأنه وحده القادر على تجاوز كل الخلافات واستمرار الحياة الأسرية.ضمّ العمل شخصيتين فقط: الزوجة (منى) التي ترفض أن تكون سلعة من أجل تحقيق حلمها وتعيش دائمًا شعورًا بالظلم تعبّر عنه بالتوتر والصراخ والتناقض وكيل الاتهامات للزوج وتحميله مسؤولية كل فشل عاشته. وهناك الزوج (وسام)، الممرض في مشفى حكومي، والذي تناديه زوجته بالدكتور، إشارة منها إلى الانتقاص من مهنته وتذكيره بتفوقها عليه. وهو رجل انفعالي وعُصابي ويعاني من تناقضات كبيرة بداخله. الشخصيتان تعيشان طوال ساعة كاملة حالة من الغضب والاستفزاز والتوتر، ويتحدثان بأصوات عالية، وهذا ما جعل اللحظات والمشاهد جميعها متشابهة، وأفقد المتلقي القدرة على أن يعيش لحظات الذروة في العرض، وأن يعيش لحظات من الهدوء والتأمل فيما يجري على الخشبة في هذا المنزل المسكون بالخراب النفسي والروحي. الحوارات جميعها كانت أقرب إلى الصراخ والشجار من الحوار الدرامي، وهذا جعل الخط الدرامي واحدًا لم يحدث فيه أي تطوّر خلال العرض.الديكور (ريم الماغوط) كان بسيطًا ومناسبًا لحالة الزوجين المادية والعاطفية، وهو عبارة عن غرفة صغيرة تتوسطها نافذة مغلقة وفيها كرسيان ومكتب صغير للزوجة التي فشلت في تسويق نصوصها الدرامية للشركات التلفزيونية. أما التنفيذ الفني للديكور (يوسف النور) فقد عبر عن بيت فيه الكثير من الفوضى والعبث، توقف الزمن فيه عند الساعة العاشرة إلا خمس دقائق كما ظهر على ساعة الحائط الموجودة فيه، وهو موعد الحفلة السنوية لهذا الزواج المضطرب المتهالك رغم وجود حب كبير بين الزوجين. أما الموسيقى فقد لعبت دورًا إيجابيًا في هذه المسرحية حيث استطاع فادي الشاعر تقديم مقطوعات التشيللو والكمان لتخفف من الصخب والضجة في الحوار، ومن المبالغة والصراخ في الأداء. بينما استطاعت الإضاءة التي صممها جوري أكتع أن تجعل المكان يضج بالفقر والخيبة والخذلان.العرض عن نص للكاتب الروماني الفرنسي أوجين يونيسكو، بعنوان "هذيان ثقافي"، وهو أيضًا عن زوجين يوجهّان الاتهامات الكبيرة لبعضهما طوال العرض، فيما الحرب تدور خارج منزلهما بين جيشين. ورغم تعرض المكان للقصف الشديد وتحوله إلى خراب ودمار يواصل الزوجان الصراخ والعراك وتبادل التهم."آخر ليلة. أول يوم" كتبها الكاتب المسرحي والناقد جوان جان، والذي تُعتبر تجربته في الكتابة المسرحية المعاصرة والنقد إحدى التجارب الهامة في المسرح السوري، وقد ألّف العديد من النصوص المسرحية للكبار والصغار، ومنها: "نور العيون"، "ليلة الوداع"، "وقت مستقطع"، و"خطبة لاذعة ضد رجل جالس"، وقد تحول معظمها إلى عروض داخل سورية وخارجها. وأكدّ جان أن نص هذه المسرحية مكتوب من عشرين عامًا، ولكن موضوعه ما زال موجودًا ويتفاقم يومًا بعد يوم، ويعبّر عن حالات خلاف متكررة لا تصل إلى نقطة اللاعودة بسبب الحب والذكريات المشتركة بين الزوجين. وقال: "التفاعل الكبير من الجمهور وخاصة تأثر النساء كان دليلًا على نجاح العمل في إيصال رسالته الإنسانية والاجتماعية".أما مخرج العمل رائد مشرف وبطله فقد رأى أن "المسرحية تلامس الجمهور في كل مكان، وقريبة في موضوعها من الناس، وأنها قُدمت بأسلوب جديد يناسب المتلقي الحالي". وعن تقديمه كممثل لشخصية الطيب الخائن الضعيف بعكس الأعمال التي كرّسته كشرير قال: "إن هذا التناقض موجود في المجتمع وفي الكثير من المنازل".وكان مشرف قد اعتمد في حلوله الإخراجية على الأسلوب الواقعي الاجتماعي البسيط البعيد كل البعد عن الإبهار والتنوع، وهو الذي بدأ مسيرته الفنية في المسرح ثم انتقل للتلفزيون، واشتُهر بأدوار البيئة الشامية، وهذه تجربته الثالثة مع مديرية المسارح والموسيقى.من جهتها أكدت الممثلة عهد ديب أن هدف العودة للمسرح هو الذي أغراها بتقديم شخصية منى التي تعبّر عن غالبية النساء في سورية والدول العربية وعن علاقتهن غير المتكافئة وغير المنصفة مع أزواجهن. وأشارت إلى أن التجربة كانت ناضجة ومهمة على الصعيد المسرحي بعد فترة انقطاع طويلة، وإن "تقديم دور امرأة متزوجة ولديها أحلام تسعى لتحقيقها رغم فقدان الدعم من الشريك أمر ليس بالسهل".المعروف أن المسرح السوري واجه تحديات كبيرة بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، وأُصيب بالعجز والترهل والتوقف شبه التام، والقيود والرقابة المترافقة بالتهديدات والقبضة الأمنية الشديدة، ولكنه يحتاج إلى الدعم المؤسساتي وإعادة البناء ثقافيًا وفنيًا وأخلاقيًا. وهو مسرح عريق شهد خلال تاريخه الطويل كفاءات عظيمة في مجالات الكتابة والإخراج والتمثيل وسائر العمليات الفنية. كما تعرّض خلال عقود للترويض والقمع كما كل مجالات الحياة في سورية. ولكن بعد سقوط النظام تبقى الأسئلة المطروحة، هل سينهض المسرح السوري من جديد؟ وهل سيستطيع التعبير عن المآسي والأهوال التي تعرّض لها الشعب السوري؟ وما هي مساحة الحرية التي ستُعطى له وللفنون الأخرى كافة، وللحياة الثقافية والسياسية عمومًا في سورية؟ وهل سيستطيع أن "يُحيي الحوار المفقود، ويكون خطوة لمواجهة المشكلات، ويعكس الواقع، ويتفاعل معه حتى لو كان محبطًا وقاسيًا، وهل سيكون وسيلة ومنصة للأمل وظاهرة حضارية لا غنى عنها"؟.
|