الثلاثاء 2025/9/9 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
نيوز بار
الشرعية السياسية: بين الاختيار والوعي
الشرعية السياسية: بين الاختيار والوعي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

في أي مجتمع، تكمن قوة السياسة في شرعيتها. هذه الشرعية ليست مجرد شعارات أو تقليد للقوانين، بل أساسها تمكين الشعب من اختيار قياداته ونظامه السياسي بحرية، بعيداً عن أي تأثير قسري أو ضغط خفي. في العراق، كما في كثير من البلدان التي تعيش تجارب ديمقراطية شكلية، نلاحظ أن الانتخابات تتكرر، لكن كثيراً ما تتكرر معها الوجوه نفسها، بنفس الرؤى المحدودة، وبنفس الشعارات، وكأن التاريخ السياسي يعيد نفسه بلا تعلم.

 

الشرعية الحقيقية تقوم على المؤسسات، على القوانين، وعلى التزام القيادات بالمساءلة أمام المواطنين، لا على الجاذبية الشخصية أو المواقف الفردية أو خطابات الإنقاذ التي تتكرر في كل أزمة. ماكس فيبر يميز بين الشرعية التقليدية والعقلانية والقائمة على الكاريزما؛ والخطر الأكبر يكمن دائماً في أن تتحول الكاريزما إلى سلطة فوق المؤسسات، تمنح زعيماً واحداً القدرة على تجاوز القوانين وتوجيه المجتمع بحسب رؤيته الخاصة، بدلًا من الالتزام بالمصلحة العامة.

 

نجاح الانتخابات مرتبط بشكل مباشر بوعي الناس وفهمهم لمعنى الديمقراطية ومصلحة البلد. عندما يكون المجتمع بسيطاً، أو محدود الثقافة السياسية، أو فقيراً، يسهل التأثير عليه بالخطاب الديني، العقائدي، العشائري أو القومي، فتتحول العملية الانتخابية إلى شكل من أشكال الديمقراطية “الاسمية”، تقوم على الصيت والجماعة والاتباع، وليس على فهم معمق للمبادئ الديمقراطية. وهذا يفسر بقاء نفس الوجوه في الواجهة السياسية خلال حقب متعاقبة، حتى وصل المزاج العام إلى مرحلة من العطب والإحباط.

 

الذين يصعدون إلى السلطة في هذا السياق، حتى في الأنظمة الديمقراطية الشكلية، غالباً ما يسعون لإعادة إنتاج أنفسهم وتوسيع نفوذهم بوسائل متعددة: الإعلام، النفوذ الاقتصادي، أو بناء تحالفات مصلحية. كل ذلك يمكن أن يخلق شعوراً زائفاً بالشرعية، بينما المؤسسات الحقيقية تظل ضعيفة أو هامشية. وتجارب المنطقة تثبت أن هذا النمط يؤدي إلى تكرار الأخطاء التاريخية، وفقدان فرص الإصلاح، وبروز أزمة ثقة بين الشعب وقياداته.

 

الديمقراطية، في جوهرها، هي ضمانة لحق المواطنين في الاختيار والمساءلة. ولا تكفي مجرد الانتخابات لإقامة شرعية كاملة؛ بل يجب أن ترافقها ثقافة سياسية مؤسساتية، وشفافية في القرارات، ومراقبة مستمرة لضمان أن القوانين والسياسات تخدم الشعب وليس النخبة أو الزعيم المؤثر. أي تقصير في ذلك يجعل الشرعية هشة، ويترك المجال لتكرار سيناريوهات الفشل.

 

لذلك، من الضروري أن تبدأ التربية الديمقراطية منذ المراحل الأولى في المدرسة، ليس فقط كمعرفة نظرية، بل كمهارات سلوك وفكر: احترام الرأي الآخر، المشاركة، النقد البناء، والالتزام بالقوانين. هذه الثقافة تجعل المواطن واعياً لمسؤوليته، وتحمي المجتمع من الانزلاق نحو سياسات محدودة أو تكرار الأشخاص نفسها، أو تركيز القوة في يد فرد واحد.

 

اليوم، والشعب العراقي على أبواب انتخابات جديدة، ثمة فرصة حقيقية لإعادة ضبط العلاقة بين المواطن والسلطة. الخيار الشعبي يجب أن يكون واعياً، مدعوماً بالمؤسسات والشفافية، وليس مجرد إعادة إنتاج لنفس الأشخاص والأفكار القديمة. الشرعية السياسية ليست شعاراً يوضع على الأوراق، بل ممارسة حقيقية تظهر في قدرة الشعب على محاسبة قياداته، وفي قوة المؤسسات على تحقيق المصلحة العامة. تجاهل ذلك يعني تكرار التجارب السابقة، وفقدان الثقة، وربما تعزيز نفوذ الشخصيات التي تحاول وضع نفسها فوق القوانين والمؤسسات. 

 

في النهاية، الشرعية ليست مجرد ورقة انتخابية، ولا شعارات توضع على الأوراق، بل هي ممارسة يومية تتأسس على وعي المواطنين واختيارهم الصحيح. تستمر بالمساءلة، وتعكس قوة المؤسسات، وتحمي المجتمع من الانزلاق نحو تكرار السياسات الفاشلة، أو تركيز السلطة في يد شخص واحد، أو خضوع النظام لقوة الفرد بدلًا من القانون. الشرعية الحقيقية هي التي تجعل الديمقراطية أسلوب حياة، لا مجرد حدث عابر في صناديق الاقتراع.

المشـاهدات 56   تاريخ الإضافـة 07/09/2025   رقم المحتوى 66406
أضف تقييـم