
![]() |
الذين يخافون من الكلمة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : سألني صديقي في لحظة صمت ثقيلة: ـ "متى يصبح الإنسان حراً بحق؟"
قلت له: ـ "حين لا يحتاج إلى إذن من حزب، ولا ختم من مسؤول، ولا موافقة من مكتب فاسد كي يعيش يومه. حين لا يُعامل كضيف ثقيل في وطنه."
الحرية ليست لافتة يرفعها نائب في موسم الانتخابات، ولا خطبة جوفاء يرددها زعيم كتلة وهو يحسب أرباحه من المقاولات. الحرية أن تمشي في شارعك بلا رعب من رصاصة طائشة أو سيارة مسرعة، أن تشرب ماءً لا يذكرك بطعم الفساد، أن تنام دون أن يتسلل مسؤول عبر نافذتك ليمارس هوايته المفضلة: التفتيش في عقول الناس وأحلامهم. الحرية أن يذهب ابنك إلى مدرسة تُعلّمه التفكير لا التبعية، وأن تكتب جملة دون أن يطاردك موظف رقابة أُمّي.
لكن الحقيقة أبسط وأقسى: السياسيون ـ أو بالأحرى تجار المناصب ـ لا يريدون إصلاحاً. يريدون جمهوراً من الطبالين لا كتاباً، قطعاناً من المصفقين لا مفكرين. المفكر عندهم خطر لأنه يفضحهم، أما الحسناء التافهة فهي "استثمار مضمون": تبتسم فتصير ابتسامتها أوامر نافذة، بينما الكاتب إذا تكلم أُلصقت به شتى التهم.
أحد رؤساء الكتل سألني يوماً بسخرية: ـ "شنو تشتغل؟" قلت: "كاتب." فضحك وقال: "يعني عاطل!" فأجبته: "الكاتب مؤرخ اللحظة، من يسجل الحقيقة لتبقى للأجيال. الكاتب ضمير أخلاقي للردع والاستباق، مثل البطريق الذي يطلق صوته قبل هبوب العاصفة." ابتسم باستخفاف، كأن الحقيقة مجرد نكتة في مقهى.
هؤلاء لا يخجلون، فالخجل يحتاج إلى ضمير، وهؤلاء بلا ضمائر. والضمير ـ وهو أقدم من القانون والثقافة والحضارة ـ غائب عنهم. لكنهم يخافون. نعم، يخافون من الكلمة. يخافون من جملة تُفضح فسادهم أكثر من ألف تظاهرة، ويخشون مقالاً يخرج من قلب صادق أكثر من كل مواكبهم المسلحة. الكلمة التي يكتبها كاتب حر أخطر من أبواقهم ودعاياتهم، لأنها تبقى، تُقرأ، وتتحول إلى سلاح في وعي الناس.
أصحاب النفوذ يخشون الخطاب والسرديات المضادة، لأنهم بنوا واجهات مزيفة تخفي وجوههم الحقيقية. يعرفون أن الأقنعة حين تسقط تكشف حقيقتهم المزرية، ولهذا يرتجفون من الكاتب أكثر مما يخشون أي معارضة سياسية.
الحرية ليست منحة من برلمان مشغول بالصفقات، ولا هبة من وزير فاسد، ولا مكرمة من زعيم عصابة مسلحة. الحرية أن تواجههم، أن تكسر حاجز الصمت، أن تقول ما لا يريدون أن يسمعوه. الحرية مقهى تجلس فيه كما تجلس في بيتك، بلا عيون تتجسس ولا آذان تتنصّت، مقهى للحوار لا للوشاية والقيل والقال.
الحرية قاضٍ تراه في المساء جالساً معك على الطاولة نفسها، تتبادل معه الحديث كإنسان، ثم في الصباح تقف أمامه لتشتكي من ظلمه أو سوء استعماله للسلطة، وأنت مطمئن أن عدالتك لن تُباع في المزاد. الحرية حبل غسيل تشتريه من السوق، لتعلّق عليه قمصانك وأحلامك الصغيرة، لا حبلاً ينتظرك عند كل منعطف تاريخي أو انقلاب ليُلف حول عنقك باسم الوطن أو الدين أو الحزب.
أخطر السجون ليست تلك التي تُشيَّد من جدران وأسلاك، بل تلك التي تُزرع في داخلك: حين تُقنع نفسك أن هؤلاء قدر لا يُقاوم، فتستسلم وتقبل أن يدير حياتك تاجر أصوات أو سمسار مناصب.
قلت لصديقي أخيراً: الحرية ليست حلماً رومانسياً. الحرية تبدأ بكلمة. والكلمة آخر ما يخشونه، لأنها لا تُشترى ولا تُباع، ولا تُستبدل بابتسامة عابرة من حسناء مدللة، ولا تُسكتها كل مواكبهم المصفحة. |
المشـاهدات 45 تاريخ الإضافـة 09/09/2025 رقم المحتوى 66447 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |