الثلاثاء 2025/10/21 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 19.95 مئويـة
نيوز بار
العراق على مفترق الحقوق: بين الخطاب الرسمي وواقع الانتهاكات
العراق على مفترق الحقوق: بين الخطاب الرسمي وواقع الانتهاكات
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب نوري حمدان
النـص :

 

 

 

فوز العراق بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة 2026–2028 شكّل حدثًا دبلوماسيًا بارزًا في الخطاب الرسمي، إذ اعتبرته وزارة الخارجية انتصارًا سياسيًا يكرّس ثقة المجتمع الدولي بالدولة العراقية. لكن، خلف هذا الاحتفال، تُطرح أسئلة عميقة حول واقع حقوق الإنسان داخل البلاد، ومدى انسجام التصريحات الحكومية مع الحقائق التي توثّقها المنظمات الدولية والمحلية. فالعضوية في مجلس حقوق الإنسان، وإن كانت رمزية على المستوى الدولي، لا تُعد صكّ براءة من سجلّ مليء بالانتهاكات والاختلالات البنيوية في منظومة العدالة العراقية.في السنوات الأخيرة، كثّفت الحكومة العراقية جهودها لتقديم نفسها أمام الأمم المتحدة كدولة ملتزمة بالمعايير الدولية. فهي طرف في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وقدمت تقارير إلى مجلس حقوق الإنسان ضمن آلية المراجعة الدورية الشاملة (UPR)، حيث قبلت بغداد أكثر من 180 توصية من أصل 263. ومع ذلك، يشير مراقبون إلى أن العراق لا يزال بعيدًا عن التطبيق العملي لهذه الالتزامات. فمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تصفان الوضع الحقوقي بأنه يتأرجح بين إصلاحات شكلية وتراجع فعلي في الحريات العامة، خصوصًا في ما يتعلق بحرية التعبير، وحقوق المتظاهرين، واستقلال القضاء.تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن العراق يعيش ما يشبه الانفصام بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني. فبينما تؤكد الحكومة التزامها بسيادة القانون، تُسجّل منظمات الأمم المتحدة انتهاكات مستمرة على يد جهات أمنية من جهة وجمعات مسلحة من جهة أخرى، ولعل أخطر ما يرد في تلك التقارير هو الإشارة إلى ضعف المساءلة، حيث نادرًا ما يُحاسب المسؤولون عن الانتهاكات الجسيمة. هذا ما وصفته بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، بأنه “ثقافة الإفلات من العقاب” التي تضعف ثقة المواطنين بمؤسسات العدالة وتمنع أي إصلاح مستدام.أما محليًا، فتبدو الصورة أكثر تعقيدًا. فالمنظمات الحقوقية العراقية، رغم محدودية مواردها وضغوطها السياسية، ترصد فجوة واضحة بين الوعود الحكومية والتطبيق الفعلي. التقارير الصادرة عن المرصد العراقي لحقوق الإنسان ومركز بغداد لحقوق الإنسان تُبرز أن انتهاكات حرية التعبير ما تزال سائدة، وأن بعض القوانين المقترحة داخل البرلمان قد تفتح الباب أمام تقييد إضافي للإعلام والنشاط المدني. كما تشير هذه المنظمات إلى أن جهود محاربة الفساد والعدالة الانتقالية ما تزال بطيئة، وأن النظام القضائي يعاني من التدخلات السياسية.اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان، وهي الجهة الرسمية المعنية بالمتابعة داخل مجلس النواب، تقدّم صورة أكثر توازناً، فهي تعترف بوجود تحديات «تنفيذية وإدارية»، لكنها تؤكد أن الدولة تسير في مسار التحسين المستمر. مع ذلك، فإن لغة بيانات اللجنة تميل إلى الدفاع عن أداء الحكومة أكثر من مساءلتها. فهي تبرّر بطء الإصلاحات بظروف الأمن والسياسة، في حين ترى المنظمات المستقلة أن هذه التبريرات تحوّلت إلى غطاءٍ دائم للتقاعس. وبين الخطابين، يبقى المواطن العراقي هو الضحية الصامتة لمنظومة حقوقية هشة تتأرجح بين القانون والواقع.وفي المقابل، تُصنّف لجنة حماية الصحفيين (CPJ) العراق كواحد من أخطر البيئات للعمل الإعلامي في الشرق الأوسط. وقد وثّقت خلال عام 2024 عشرات حالات التهديد والاعتداء على الصحفيين، في حين لا يزال بعضهم مفقودًا منذ سنوات دون تحقيقات جادة. هذا الواقع يتناقض بشكل مباشر مع تصريحات المسؤولين التي تتحدث عن حرية إعلام واسعة وبيئة ديمقراطية. وتشير تقارير أخرى صادرة عن منظمات عربية ودولية إلى أن الخطاب الرسمي لا يعكس ما يحدث فعليًا على الأرض، حيث تُستخدم التشريعات أحيانًا كأداة للضغط وتكميم الأصوات، لا لحماية الحقوق.ومن زاوية أخرى، تشكّل قضايا النساء والأقليات مقياسًا دقيقًا لمستوى احترام حقوق الإنسان في أي بلد. في العراق، وعلى الرغم من بعض الخطوات الإيجابية مثل قانون دعم ضحايا الإيزيديين، إلا أن تحديات المساواة الجندرية والتمكين القانوني للنساء ما زالت قائمة. تُثير مشاريع تعديل قوانين الأحوال الشخصية قلقًا واسعًا لأنها قد تشرعن تمييزًا قانونيًا ضد النساء والفتيات، وهو ما يتنافى مع التزامات العراق الدولية. أما الأقليات الدينية والإثنية، فما تزال تعاني من التهميش وضعف التمثيل، رغم الوعود الرسمية المتكررة بضمان حقوقها السياسية والاجتماعية.وفي ضوء هذه المعطيات، يصعب الحديث عن تصنيفٍ إيجابي للعراق وفق معايير المنظمات الدولية. ففي الوقت الذي يضعه البعض في خانة «الدول المتعاونة جزئيًا»، تصنّفه تقارير أخرى ضمن «البلدان ذات الانتهاكات الممنهجة» لحقوق الإنسان. العراق اليوم أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن يحوّل عضويته في مجلس حقوق الإنسان إلى منصة لإصلاح الداخل، أو يكتفي باستخدامها كورقة تجميل دبلوماسية تخفي وراءها واقعًا حقوقيًا متصدعًا.الواقع أن المشكلة ليست في غياب القوانين، فالدستور العراقي مليء بالنصوص التي تكفل الحقوق والحريات. المشكلة في غياب الإرادة السياسية لتطبيقها بعدالة. فحين تتحول حقوق الإنسان إلى شعارات تُتداول في المؤتمرات، وتُنسى في أروقة السجون ومراكز الاحتجاز، يفقد المواطن ثقته بكل المؤسسات. وحين يصبح الدفاع عن الحقوق خطرًا، يتحول الصمت إلى وسيلة بقاء، وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة تسعى لاستعادة مكانتها الدولية.ختامًا، يمكن القول إن فوز العراق بعضوية مجلس حقوق الإنسان ليس غاية، بل اختبار. اختبار لمدى قدرة السلطة على إثبات أن الوعود يمكن أن تتحول إلى سياسات واقعية. التقارير الدولية والمحلية، مهما بلغت حدتها، ليست خصومة مع الدولة، بل مرآة تُظهر ما تحاول المؤسسات تجاهله. وما لم تتبنَّ الحكومة العراقية إصلاحات ملموسة في القضاء، ومحاسبة المنتهكين، وحماية حرية التعبير، فسيبقى الانتماء إلى مجلس حقوق الإنسان عنوانًا فارغًا في سجلّ دولة تتحدث كثيرًا عن الحقوق وتمنحها قليلًا.

المشـاهدات 26   تاريخ الإضافـة 20/10/2025   رقم المحتوى 67523
أضف تقييـم