
![]() |
حين يكتب القلب عن القلم |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : بعض الرسائل لا تأتي على ورق، بل على هيئة ضوءٍ يعبر العتمة.تصل في اللحظة التي نظنّ فيها أن المعنى قد غادر العالم، فتُعيد ترتيب اليقين، وتذكّرنا بأنّ الكلمة الصادقة لا تُشفى من الحياة.رسالة الكاتب الكبير عبد الحسين عبد الرزاق كانت من هذا النوع؛ رسالة كتبتها روحٌ تتأرجح بين الألم والخلود، لكنها ما زالت تعرف كيف تضيء.
وقد قرأني كما لا يقرأني أحد — رأى في كتاباتي، كما قال،
“فيضَ أفكارٍ تنبض بالصدق، وقدرةً على صياغة الرؤية السياسية والفكرية بعمقٍ نادر، تذكّر بأيام الكبار من أعلام الصحافة الذين رحلوا.”
لم تكن كلماته مجرّد امتنانٍ أو مديحٍ عابر، بل إشارة من زمنٍ ظلّ يؤمن بأنّ الكتابة شرف، لا مهنة، وأنّ القلم لا يُمسك ليُرضي، بل ليشهد.
كتب وهو يجاور المرض كما يجاور الجندي النار: يقيناً بأنّ الصوت لا يُقاس بقوة الجسد، بل بصدق الوجدان.
لقد كانت رسالته أشبه بمرآةٍ نادرةٍ نرى فيها ما تبقّى من النقاء في عالمٍ ازدحم بالتصنّع والضجيج.
الكتابة ليست جهداً عضليّاً، بل نَفَسٌ خفيٌّ يتسلل من أعماقٍ لم نزرها بعد.
هي ما يحدث حين يصمت كلّ شيءٍ فيك إلا المعنى، حين ينبت الحرف كما تنبت نبتة في حجر، دون أن تفكر كيف أو لماذا.
الكتابة الحقيقية لا تُفتعل، بل تولد من الضرورة — من حاجة الروح لأن تقول شيئاً كي لا تختنق.
لهذا، لا يُرى الكتّاب في ضجيج العالم، لأنهم يشبهون الكواكب: لا تتكلم، لكنها لا تكفّ عن الدوران حول النور.
الكاتب الحقيقي لا يبحث عن الإعجاب، بل عن لحظة صدقٍ يضع فيها قلبه على الطاولة.
إنه لا يكتب ليتزيّن، بل لأن الصمت لم يعد يحتمله.
وحين تنتهي الجملة، لا يشعر بالزهو، بل بالراحة — كمن أفرغ ما يؤلمه في ورقة وتركه هناك ليتنفس بدلاً منه.
الكتابة أيضاً نوعٌ من الجنون الجميل؛ تورّطٌ لا فكاك منه.
فمن يجرّب أن يسكن اللغة لن يعود كما كان، لأن الكلمات حين تُفتح كالأبواب لا تُغلق بعد ذلك.
الكاتب يعيش محاصراً بين شغفٍ لا يُروى وصمتٍ لا يطاق، يحاول أن يخلق من اللغة بيتًا يلوذ به من العدم، ومن الجملة وطناً صغيراً ضد الفناء.
إنه لا يُمسك بالقلم، بل يتشبّث به كما يتشبّث الغريق بخشبة نجاة.
ولأن الكتابة مغامرةٌ أخلاقية بقدر ما هي فنية، فإنّ الكاتب — كما وصفه إدوارد سعيد — هو الذي لا يتواطأ مع السائد، ولا يهادن السلطة، ولا يخاف من أن يكون المختلف في زمن النسخ المتكرّر.
الكاتب شاهدٌ على ما يُنسى، وصوتٌ لمن لا صوت له، وهو دائماً “المحرج” الجميل في كلّ زمنٍ يطلب التواطؤ.
في عالمٍ تغمره الكراهية ويتراجع فيه الجمال، لا خيار أمام الكاتب إلا أن يخترع عالماً موازياً بالكلمات.
ذلك العالم لا يسكنه الهاربون، بل الذين يريدون أن يظلّوا قادرين على الحلم.
فالخيال ليس ملاذاً من الواقع، بل طريقٌ آخر لفهمه.
إنه الرفاهية الأخيرة التي بقيت للإنسان بعد أن استُهلكت كلّ أشكال اليقين.
الأحلام بالنسبة للكاتب ليست ترفاً، بل تدريبٌ على الحرية.
أن تحلم يعني أن ترى ما لا يُرى، أن تطير دون أجنحةٍ لأنّ الخيال أقوى من الجاذبية.
وحتى حين تنتهي الأحلام، تظلّ ذاكرتها تفتح النوافذ في العقول المغلقة.
إنّ أجمل ما في الكتابة أنها تحوّل الوجع إلى معنى، والعزلة إلى موسيقى.
وأنها تذكّرنا بأنّ الصدق لا يحتاج إلى جمهور، لأنّ النص الصادق كالماء:
ينبع من مكانٍ مجهول، لكنه يصل دائمًا إلى العطشانين.
الكتابة ليست عزفاً على وتر اللغة فقط، بل موقفٌ من الوجود نفسه.
فالكلمة الصافية لا تدّعي الحكمة، لكنها تمنحنا ما يشبهها: السكينة، والاحتمال، والقدرة على التحمّل.
إنها تترك فينا أثراً يشبه الأبد، حتى لو لم يلتفت أحد.
رسالة الزميل عبد الحسين كانت أكثر من خطابٍ من مريضٍ لصديق، كانت وصيّة ضوءٍ إلى زمنٍ يوشك أن يطفئ مصابيحه.
كتبتَ لتقول إنّ الجمال لا يمرض، وإنّ الفكر لا يشيخ، وإنّ الكلمة حين تصدر من القلب تظلّ حيّة، مهما تقادم العمر.
لقد تركتَ لنا درساً أخيراً في المعنى:
أنّ الكاتب لا يُقاس بما كتب، بل بما أيقظه في الآخرين.
ما أندر أن يلتقي في إنسانٍ واحدٍ هذا المزيج من البساطة والعمق، من الرقة والشجاعة.
ولعلّ أجمل ما تمنحه الكتابة لنا هو أن نجد في كلمات الآخرين صدى أرواحنا التي لم نعرفها بعد.
فسلامٌ على القلم الذي لا يخون، وعلى الأرواح التي تعرف أن الحرف ليس وسيلة بل مصير،
وسلامٌ على كلّ من يكتب لأنّ القلب أصدق من التاريخ، والكلمة أبقى من الجسد. |
المشـاهدات 23 تاريخ الإضافـة 22/10/2025 رقم المحتوى 67543 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |