
![]() |
قصتان قصيرتان حسين بن قرين درمشاكي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
كاتب وقاص ليبي مِدَادٌ مُدَان على أرصفة الجهل، استقام مِرّار. لم يكن صفقة يطلب، إنما جذوة يستجلب لها الرطوبة. بضاعته: شُهب من حبر، رُفضت أنوارها في سوق القَمَط. كان القوم تجمعًا لهياكل، عيونهم مُكلّسة، لا ترى في الكتابة سوى إطالة لظل الحائط. رموا له زبدًا، وظنوه يتوسل كِسرة الزاد، بينما كان يستجدي كِسرة الوعي. وفي لحظة تبتل يائس، أطلق مِرّار صيحة، اهتزت لها هالة الرصيف: "لغتي تستجدي مُنقِذًا! من يشتري مني خلاصًا؟ لـِتُخرجوا هذا المداد من بئر العبث!" لم يقطف أحد صرخته السامقة. في غياهب الغياب، لملم تبارِيحه. لم يأخذ قلمه. تركه عُكازًا أعرج لمخطوطاته. في الصباح، وجدت المدينة ما ترك: أكوامًا بيضاء. شواهد قبور لـِفِكر لم يُولد. غاب مِرّار، تاركًا خلفه سؤالًا يَئِنّ: هل تُسفر الكواكب وجهها لقوم يخشون فكّ رمز الليل؟ ليلُ البُعدِ المُدْلَهِمّ
الستائرُ مُرخاةٌ كأقدارٍ وحُجبٍ، تُواري سرَّ الغرفةِ. ضوءٌ خجولٌ من القمرِ يَلمسُ رسالةً بيضاءَ ناصعةً ودفترَ مُذكراتٍ مفتوحاً. قرأ: "يا صاحبة القلبِ الذي أسرَني، جاءَتني حروفُكِ جمرًا أضاءَ عتمةَ أيامي... إنَّ بُعدي محاولةٌ بائسةٌ لترتيبِ الحياةِ بعد أن اقتلعتْ جذورَها رياحُ القدرِ العاتية. أَعِدُكِ بـرحمةِ اللقاءِ قريبًا جدًا، لتجدَ فيّ الرّكنَ الشديدَ." همسَ مُردداً صدى رسالتِها: "أُقسِمُ لكَ أنّ رَحمَةَ اللقاءِ هي أُمْنِيتي ودُعائي... أنتَ ما زلتَ النّورَ الذي يُبَدّدُ ظُلمَةَ العيشِ... فـقَلبي مِثلُ قَلبِك، يَرتوي من نَبْعِ هَواكَ." ظلَّ النَّبضُ يَشدُّهُ، يتأرجحُ بينَ مرارةِ الفراقِ وشَدِّ الأرواحِ. لم يكنْ الغيابُ مسافاتٍ، إنما غَصّاتٍ تَتوالى تُجبِرُ القَلبَ على الصمتِ. رحيقُ اللحظاتِ العَذبةِ هو ماؤهُ الذي يروي قاحلَ الأملِ. "لتأتيَ اللحظةُ المناسبةُ للقاءِ، يجبُ أن تَكتملَ دائرةٌ ما، أُريدها أن تكونَ بدايةً ثابتةً لا يُعكّرُ صفوَها غيابٌ آخر." انتبهَ إلى الزاويةِ اليُمنى السُّفلى من الرسالةِ الأخيرة: "المرسل إليها: القلبُ الذي لا يرتوي إلا من عينيكَ." وفي أسفلِ الأولى: "المُرسِلَة: أنثاكَ التي أسرْتَ قلبَها وشدَدْتَ وَتينَها." شَعَرَ ببرودةٍ قاسيةٍ تجتاحُ أوصالَهُ. الغِيابُ لم يكنْ مَشيئةً مُتعمّدةً وحسب، بل كشفاً قاهراً. رفعَ الرجلُ عينيْهِ نحو السقفِ. الرسالتانِ مُكتملتانِ. النَّبْضُ الذي لم يَخُنْ، واليَقينُ الذي يُبَدّدُ كُلَّ ظَنٍّ، والأملُ في رَحمةِ اللقاءِ. الرسالتانِ مُتبادلتانِ بينَهُ وبينَ نَفسِهِ. عيناهُ نَزَفتا بصمتٍ أمامَ المَنارةِ الأولى: وحدتُهُ القاسية. صوتُ الممرضةِ يَطرقُ بابَ غرفتِهِ في مَصَحَّةِ النَّقاهةِ. جاءَتْ بدواءِ الاكتئابِ الحادِّ الذي أعقَبَ الفِراقَ الأبديَّ مُنذُ عام. انقشعَ الضَّبابُ. المَنارةُ التي سيبحثُ عنها حينَ يَرى نفسَهُ: وجهُهُ هوَ أولُ ما سيَبحثُ عنه ليُجيبَ على سؤالِ: كيفَ كنّا؟ |
المشـاهدات 136 تاريخ الإضافـة 22/10/2025 رقم المحتوى 67563 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |