اكتوبر الوردي..الكشف المبكر ليس طبًّا فقط... إنه وعيٌ يغيّر مصير امرأة
![]() |
| اكتوبر الوردي..الكشف المبكر ليس طبًّا فقط... إنه وعيٌ يغيّر مصير امرأة |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب جيلان رياض |
| النـص : في كل عام، ومع أول نسمات الخريف، يكتسي العالم باللون الوردي. لون لم يعد مجرد رمز للأنوثة أو الحنان كما في المعاني القديمة، بل أصبح رايةً للتحدّي والأمل والحياة. إنه شهر أكتوبر، الشهر العالمي للتوعية بسرطان الثدي، الشهر الذي يذكّرنا بأنّ الصمت قد يقتل، وأنّ المعرفة قد تُنقذ حياة، وأنّ الكشف المبكر ليس شعارًا بل وعدٌ بالاستمرار.إنه شهر يفيض بالحكايات، بالعبر، بالتحولات النفسية والجسدية التي تمر بها النساء حين يواجهن مرضًا لا يرحم الجهل ولا يخاف الوعي.
لماذا أكتوبر؟ ذاكرةٌ وردية تحمل رسالة للعالم
اختير شهر أكتوبر منذ بدايات الثمانينيات ليكون شهرًا عالميًا للتوعية بسرطان الثدي، بعد أن أطلقت مؤسسة “سوزان كومن” في الولايات المتحدة أول حملة كبرى حملت الشريط الوردي شعارًا لها. ومن هناك، تحول اللون إلى رمز عالمي للحياة بعد الألم.لم يعد الأمر مجرد حدث صحي موسمي، بل أصبح ثقافة مجتمعية عالمية، تشارك فيها المستشفيات والجامعات والإعلام والمجتمعات المدنية، بهدف التذكير بأهمية الكشف المبكر والدعم النفسي والاجتماعي للنساء المصابات.في أكتوبر، يخرج الطب عن عياداته، لتخرج الإنسانية إلى الشوارع، تتحدث، تبتسم، وتواسي. تتحول المدن إلى لوحات وردية تهمس: “أنتِ لستِ وحدك.”
بين الطبّ والإنسان… المعركة التي لا تُرى
وراء كل شعار وردي، هناك قصة امرأة. امرأة ربما كانت أماً أو أختًا أو صديقةً أو زميلةً في العمل. قصص تبدأ غالبًا بالخوف، بارتباكٍ أمام مرآة، أو بكتلة صغيرة في الصدر، أو بموعد طبي مؤجل بسبب الانشغال أو الخجل أو التردد لكن القصة لا تنتهي دائمًا بالحزن. على العكس، كثير من القصص تنتهي بالنجاة، بالشجاعة، بإعادة اكتشاف الذات الطب يقول إن الكشف المبكر عن سرطان الثدي يزيد من فرص الشفاء إلى أكثر من 90%، وهي نسبة تكشف أن الخطر الحقيقي ليس المرض، بل التأخير في المواجهة. المرأة التي تُهمل فحصها الذاتي الشهري، أو تخجل من مراجعة الطبيب، أو تظن أن الأمر بعيد عنها لأنها صغيرة في العمر، هي في الحقيقة تعطي للمرض وقتًا للتقدّم دون مقاومة. ومن هنا يبدأ دور الوعي: أن نُخرج المرض من دائرة التشكيك والخوف، إلى ساحة العلم والاحتواء.
الجسد الذي يتكلم… والمرأة التي تتجاهل صوته
سرطان الثدي لا يظهر فجأة. إنه مرضٌ يتسلل ببطء، وغالبًا ما يرسل إشارات مبكرة. الجسد يتحدث، لكن كثيرًا من النساء يتجاهلن لغته.قد يبدأ الأمر بألم بسيط، أو إفراز غير مألوف، أو تغير في شكل الجلد، أو عقدة صغيرة غير مؤلمة. لكن في كثير من الأحيان، يُقابل هذا الإنذار بالإنكار، وكأن الخوف من المعرفة أقسى من المرض نفسه.هنا تأتي المعضلة النفسية:المرأة التي تُخفي خوفها ولا تفصح عنه، إنما تُخفي أيضًا فرصة نجاتها. فالثدي ليس مجرد عضو جسدي، بل رمز للأنوثة، للأمومة، للهوية. ولذلك، فإن الخوف من فقدانه يُربك المرأة، ويجعلها تؤجل المواجهة، وكأنها تحمي نفسها من الحقيقة بينما هي في الحقيقة تُعطي للمرض فرصة أكبر.لكن من تواجه باكرًا، من تُقرّر أن تسمع جسدها، غالبًا ما تكون صاحبة النهاية الأجمل.
التحليل النفسي لرحلة الوعي
المرض في جوهره تجربة وجودية. حين تصاب امرأة بسرطان الثدي، لا تكون المواجهة مع الجسد فقط، بل مع مفاهيم أعمق: مع الخوف، مع الضعف، مع فكرة الموت، ومع نظرة المجتمع.كثير من النساء يقلن إن المرض كشف لهن وجوهًا جديدة للحياة، وإن التجربة أعادتهن إلى الداخل. فحين يُجبر الجسد على التغيير، تُجبر الروح على النضج.في علم النفس الصحي، تُعتبر الاستجابة النفسية للمرض عاملاً حاسمًا في التعافي. فالمرأة التي تدخل مرحلة الصدمة ثم الإنكار، تحتاج إلى من يأخذ بيدها نحو القبول والمرونة. هذه المراحل ليست ضعفًا، بل جزءًا طبيعيًا من آلية الدفاع النفسي.لكن هنا يظهر السؤال الأهم: كيف يمكن أن نساعد النساء على تجاوز الخوف قبل أن يبدأن المعركة؟الجواب يبدأ بالتثقيف العاطفي والاجتماعي، بأن نجعل الحديث عن المرض أمرًا عاديًا لا عيبًا، وأن يكون الدعم النفسي جزءًا من كل حملة توعية، لا ملحقًا ثانويًا.
بين الخرافة والعلم… معركة أخرى لا تقل خطرًا
لا يزال كثير من الناس يربطون سرطان الثدي بعوامل خاطئة أو بمفاهيم مغلوطة.منها مثلاً: أن المرض مرتبط بالحسد أو الصدمات فقط، أو أنه لا يصيب الشابات، أو أن الفحص المؤلم يمكن أن يسبب المرض.كلها خرافات تقتل ببطء لأنها تُبعد الناس عن الفحص والعلاج.الواقع العلمي يؤكد أن سرطان الثدي يمكن أن يصيب النساء في أي عمر، وإن كان شائعًا أكثر بعد سن الأربعين. كما أن العوامل الوراثية، ونمط الحياة، والتغذية، والسمنة، وقلة الحركة، تلعب دورًا حقيقيًا في احتمالات الإصابة.لكن أهم عامل يظل هو: الوعي والمعرفة.حين تتحول المعلومة إلى عادة، والفحص إلى سلوك شهري طبيعي، حينها فقط تنخفض نسب الوفيات، ويصبح أكتوبر شهر الاحتفال بالحياة لا الحداد على الخسارات.
الرجال أيضًا جزء من القصة
ربما لا يعرف الكثيرون أن سرطان الثدي يمكن أن يصيب الرجال أيضًا، وإن بنسبة قليلة جدًا لا تتجاوز 1%.لكن الأهم من ذلك أن الرجال يلعبون دورًا محوريًا في رحلة المرأة مع المرض. فالرجل الداعم، الزوج أو الأخ أو الابن، يستطيع أن يكون الفارق بين انكسارٍ داخلي وصمودٍ يُعيد للحياة معناها.كثير من النساء يتحدثن عن كيف كانت كلمة بسيطة من الزوج أو نظرة فخر من ابنها، سببًا في استمرارها في العلاج.الوعي لا يعني فقط أن نفحص أجسادنا، بل أن نفحص قلوبنا أيضًا: كيف نتعامل مع من يتألم حولنا؟ كيف نحتوي ضعفهم دون أن نشعرهم بالشفقة؟
الوعي ليس ترفًا... إنه فعل نجاة
قد تبدو حملات أكتوبر مجرد مهرجانات وردية في نظر البعض، لكنها في الحقيقة تحمي آلاف الأرواح سنويًا.في الدول التي جعلت الكشف المبكر جزءًا من نظامها الصحي العام، انخفضت معدلات الوفاة بشكل ملحوظ. وفي المقابل، تظل نسب الوفيات في بعض الدول النامية مرتفعة بسبب ضعف الوعي، وغياب الفحص الدوري، ونقص الدعم النفسي والاجتماعي.
الوعي لا يحتاج إلى ثروة أو جاه. يحتاج فقط إلى شجاعة.
شجاعة أن تنظر المرأة إلى جسدها بحب لا بخوف، وأن تجعل الفحص الذاتي عادة كغسل الوجه صباحًا، وأن تُعلّم بناتها وأخواتها أن العناية بالنفس ليست أنانية بل مسؤولية.
التحليل الاجتماعي للظاهرة بين ثقافة العيب وثقافة النجاة
في مجتمعاتنا العربية، ما زال الحديث عن سرطان الثدي يُلفّ أحيانًا بالخجل.بعض النساء يخفين المرض حتى عن أقرب الناس إليهن، وبعض العائلات تتعامل مع الإصابة كوصمة، وكأن المرض عيبًا لا ابتلاءً.هذا الصمت الاجتماعي يقتل أكثر مما يقتل المرض نفسه.في علم الاجتماع الصحي، يُقال إن الثقافة تحدد مصير المريض قبل الطبّ.المرأة التي تنشأ في بيئة تُشجّع على الحديث والمصارحة، تجد دعمًا أوسع وفرصة علاج أسرع، بينما المرأة التي تعيش في مجتمع مغلق يحمّلها مسؤولية مرضها، تجد نفسها تقاتل وحدها.من هنا يأتي دور الإعلام والمدارس والمجتمع المدني: أن نحول الوعي إلى ثقافة، وأن نكسر الحواجز النفسية قبل الطبية.
قصص من قلب المعركة
ليست كل الحكايات مؤلمة، وبعضها يُكتب بالدهشة والامتنان.امرأة في الخمسين تكتشف المرض صدفة أثناء فحص روتيني، تبدأ رحلة العلاج، وتقرر أن تجعل منها نقطة انطلاق جديدة. تتعلم الرسم، تزرع شعرها من جديد، وتصبح ناشطة في التوعية.وأخرى، شابة في العشرينات، تكتشف الورم مبكرًا بفضل توعيتها من صديقة، تُجري عملية بسيطة، وتعود إلى حياتها أقوى من قبل.هذه القصص ليست استثناءات، بل دروس حقيقية.المرض لا يختار، لكن الشفاء يختار الشجاعة.
من الوعي إلى العمل... كيف نكون جزءًا من التغيير؟
أن نرتدي شريطًا ورديًا أمر جميل، لكن أن نفعل شيئًا حقيقيًا أكثر جمالًا.الوعي لا يعيش في الشعارات بل في السلوك اليومي.يمكن لكل فرد أن يكون جزءًا من التغيير عبر خطوات بسيطة: الفحص الذاتي الشهري بعد انتهاء الدورة الشهرية. إجراء الفحص بالأشعة (الماموغرام) بعد سن الأربعين أو حسب توصية الطبيب. تشجيع المحيطين على الفحص وعدم الخوف من الحديث. التغذية المتوازنة، والابتعاد عن السمنة وقلة الحركة. الدعم النفسي للمصابات، بالاستماع لهن لا بالشفقة عليهن.حين تتحول هذه الممارسات إلى عادة جماعية، لن نحتاج إلى انتظار أكتوبر كي نتذكر، لأن الوعي سيصبح أسلوب حياة.حادي عشر: الأثر النفسي بعد التعافي… بين الخوف من العودة وحبّ الذات الجديد
الشفاء من سرطان الثدي لا يعني نهاية القصة.
كثير من النساء بعد التعافي يدخلن في مرحلة جديدة من القلق، خوفًا من عودة المرض. وهنا تظهر أهمية الرعاية النفسية المستمرة.فالنجاة لا تُقاس فقط بنتائج التحاليل، بل بقدرة المرأة على العودة إلى حياتها، إلى أنوثتها، إلى حبّها لذاتها بعد كل ما مرّت به.العلاج الجسدي قد يُزيل الورم، لكن العلاج النفسي هو الذي يُعيد الثقة.وفي الحقيقة، كثير من الناجيات يصفن التجربة بأنها “ولادة ثانية”؛ ولادة لأنفسهن الحقيقية، ولأولويات جديدة في الحياة.
من الألم إلى الأمل… كيف يُعيد المرض صياغة الإنسان؟
من يظن أن المرض يُضعف الإنسان، لم يرَ وجه القوة في عيون الناجيات.إنهن نساء خضن معركة مزدوجة: ضد المرض وضد نظرة المجتمع، ضد الجسد وضد الخوف.خرجْن منها بوعي أعمق بأن الحياة لا تُقاس بطولها بل بعمقها.من بين كل شعارات أكتوبر، تظل عبارة واحدة هي الأكثر صدقًا:“الفحص المبكر حياة.”ليست جملة تسويقية، بل حقيقة كتبتها آلاف النساء بدموعٍ وابتسامات.أكتوبر الوردي هو موسمٌ لتذكير الجميع بأن الجمال الحقيقي ليس في الكمال الجسدي، بل في البقاء، في الشجاعة، في الأمل الذي لاعلينا ندرك ، لا يتعلق أكتوبر بسرطان الثدي فقط، بل بفلسفة الحياة نفسها.إنه شهر يذكّرنا بأن أجسادنا تحتاج إلى الإصغاء، وأن الخوف لا يمنع القدر بل يمنعنا من الحياة.شهر يعلّمنا أن الوعي ليس رفاهية، وأن من تحب نفسها حقًا، تفحصها، ترعاها، وتدافع عنها.أكتوبر ليس شهر المرض… بل شهر النجاة.ليس شهر الحزن… بل شهر الأمل.ليس لونًا ورديًا على الجدران… بل نبضًا في القلوب يقول لكل امرأة:“أنتِ جميلة… وأنتِ قادرة… وأنتِ الحياة.” |
| المشـاهدات 43 تاريخ الإضافـة 25/10/2025 رقم المحتوى 67668 |
توقيـت بغداد









