العراق... ذاكرة تعيد صياغة نفسها![]() |
| العراق... ذاكرة تعيد صياغة نفسها |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
لم يولد العراقي من رحم الهدوء يوماً. كل جيلٍ فيه يشبه نهراً يبحث عن مجراه، وكل تجربةٍ سياسية هي محاولة أخرى للكتابة على صفحةٍ مشتعلة. في سبعيناتٍ كانت البلاد تبدو فيها كقصيدةٍ وُلدت على فم بندقية، كان الوعي يترعرع في الظل. لم تكن المعارضة حزباً بقدر ما كانت حسّاً أخلاقياً يتكوّن في الصمت، بين طالبٍ يسافر للدراسة في أوروبا فيكتشف الوطن وهو بعيد عنه، ومثقفٍ يكتب بياناً لا ليُسمع، بل كي يذكّر نفسه أنه ما زال حيّاً.
كانت المنافي يومها مختبراتٍ للذاكرة. في المقاهي اللندنية، وفي الشقق الضيقة في دمشق، وبيوت المنفى في طهران، كانت تُنحت ملامح وطنٍ يتخيّله كلٌّ بطريقته. واحدٌ يحلم بعراقٍ اشتراكيٍ عادل، وآخر بدولةٍ دينيةٍ تنقذ ما تبقى من الروح، وثالثٍ بعراقٍ مدنيٍ لا يقدّس أحداً. لكن ما لم يعرفه أولئك الحالمون هو أن البلاد التي تغادرها لا تبقى كما تركتها، وأن الخرائط التي تُرسم في الغياب تُفاجأ حين تلامس التراب.
وحين سقط الصنم، لم يسقط وحده. سقطت معه كل الأوهام التي كانت المعارضة تحتمي بها. اكتشف العراقي أن الحرية لا تُورَّث، وأن السلطة بعد الثورة تشبه المرآة التي تعكسنا كما نحن، لا كما نريد أن نكون. صار من كان يصرخ ضد الطغيان يكتشف أنه يحمل بعضه في جيبه. ومن كان يطالب بالعدالة، اصطدم بعدالةٍ عمياء تساوي بين الجلاد والضحية.
لكن رغم كل شيء، لم يُغلق العراقي باب الحلم. ما زال يؤمن، بعنادٍ يليق بنهرٍ لا يعرف الجفاف، أن التجربة لم تنتهِ بعد، وأن فوضى الولادة الأولى قد تسبق نهضةً حقيقية. فالأمم لا تُبنى في النعيم، بل في العتمة حين تتلمس طريقها إلى الضوء.
إن ما ميّز الوعي العراقي في العقود الأخيرة هو أنه لم يعد وعيَ معارضةٍ فقط، بل وعيَ مراجعة. مراجعةٌ لتاريخٍ طويل من الاصطفاف، ومن التعويل على الخارج، ومن الحنين إلى نظامٍ رغم قسوته كان يمنح نوعاً من الاتزان المزيّف. اليوم، صار السؤال أكثر عمقاً: ما معنى الوطن بعد كل هذه التجارب؟ أهو الأرض فقط؟ أم الذاكرة التي نحملها حين نرحل عنها، ونحاول أن نعيد تشكيلها حين نعود؟
العراق اليوم يعيش مرحلة تشبه ما بعد العاصفة: كل شيء مبلولٌ بالأسئلة. السلطة تبحث عن شرعيتها في الإنجاز، والمجتمع يبحث عن ذاته بين هوياته المتعددة. لكن وسط هذا التيه، ثمة يقظة خفية تتكوّن—وعيٌ جديد يولد من تحت الركام، وكتّابٌ وشبابٌ وسياسيون بدأوا يدركون أن بناء الدولة لا يبدأ من القصور، بل من تصحيح الوعي الذي سكننا طويلاً.
ربما تكون أعظم ثورات العراق القادمة ليست في الشارع، بل في الوعي؛ حين نكفّ عن جلد أنفسنا، ونبدأ في رواية القصة كما هي: قصة بلدٍ أخطأ كثيراً، لكنه ما زال واقفاً على قدميه، يراجع نفسه دون خجل، ويبحث عن معنى لا تصنعه البنادق ولا البيانات، بل التجربة الإنسانية نفسها.
فالعراق، في النهاية، ليس حدثاً سياسياً، بل كائنٌ حيّ، يتنفّس من بين الشقوق، ويعيد اختراع نفسه كلما ظنّ العالم أنه انتهى. |
| المشـاهدات 131 تاريخ الإضافـة 02/11/2025 رقم المحتوى 67913 |
أخبار مشـابهة![]() |
بشراكة امريكية.. مؤتمر الشارقة للمكتبات يجمع العالم لصياغة مستقبل المعرفة |
![]() |
يونسكو توافق على مقترح عراقي لإدراج الذكرى السنوية لنشر احد مؤلفات الشهيد الصدر في سجل الذاكرة العالمية |
![]() |
ذاكرة اليد
|
![]() |
ذاكرة الشعب السياسي
|
![]() |
بطاقة الناخب مؤمنة بالبصمة الثلاثية وتعطل لمدة 72 ساعة بعد التصويت
المفوضية تعيد 3 مرشحين إلى الانتخابات |
توقيـت بغداد









