الثلاثاء 2025/11/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
ما بعد العجز
ما بعد العجز
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

في زمنٍ تختلط فيه الشعارات بالضجيج، وتغيب البوصلة بين السياسة والمعنى، يبدو العراق وكأنه يقف على حافة سؤال وجودي لا سياسي: من أين نبدأ استعادة الفعل؟

فالعجز هنا ليس مجرد فشل في الإدارة أو الأداء، بل انسداد في المخيلة الوطنية، حين يتحول التفكير إلى عادةٍ تبرر العجز بدل أن تفككه.

 

لقد أُنهك الوعي العراقي من كثرة ما جُرِّب عليه. كل مرحلة تعده بالخلاص، ثم تتركه على حافة جديدة من الخيبة. لم تعد المعارك تدور حول الأفكار، بل حول الرموز التي فقدت معناها الأصلي وصارت رايات فارغة. في هذا الركام، يولد ما يمكن تسميته بـ«وعي ما بعد العجز»؛ وعي يتخلى عن أوهام البطولة، ويتعامل مع التغيير كعملية تراكم لا كمعجزة.

 

هذا الوعي الجديد لا يصرخ في الشارع، بل يعمل في صمت المختبر. يرى في المشاركة السياسية ـ مهما كانت محدودة ـ نافذة لإعادة إنتاج المعنى من داخل النظام لا خارجه. لا يقاطع الانتخابات من باب اليأس، ولا يقدّسها من باب الإيمان الأعمى، بل يتعامل معها كأداة في معركة أطول: معركة استعادة الثقة بالعقل العام.

 

المشكلة، كما تظهر في قراءة المشهد، ليست فقط في السلطة، بل في الذهنية الاجتماعية التي اعتادت النظر إلى الدولة كجسم غريب. فكل طرف يحمّل الآخر مسؤولية الخراب، ولا أحد يجرؤ على كسر الحلقة. وهنا تكمن المعضلة الكبرى: لا يمكن إصلاح السياسة دون إعادة بناء العلاقة بين المواطن والمعنى، بين الفرد وفكرته عن الوطن.

 

منذ عقدين، تراكمت طبقات من الإحباط في الوعي الجمعي العراقي. لكن خلف هذا الإحباط ثمة تحول بطيء، يشبه تياراً خفياً تحت سطح الصخب. شباب يقرأون الواقع بلغة جديدة، يتعاملون مع الهويات بوصفها مساحات للتكامل لا للتناحر، ويطرحون أسئلة لم تكن ممكنة قبل سنوات:

كيف يمكن أن نصنع دولة من دون أن نعيد إنتاج الاستبداد؟

كيف نصوغ خطاباً وطنياً من دون أن نسقط في شَرَك الشعارات القديمة؟

 

هذه الأسئلة لا تملك أجوبة جاهزة، لكنها تكشف انتقالاً جوهرياً من مرحلة “رد الفعل” إلى مرحلة “الفعل الواعي”.

فالعراقي الذي كان يرى في الغضب خلاصاً، بدأ يدرك أن الصبر جزء من المعركة، وأن بناء الدولة يحتاج خيالاً أطول من دورة انتخابية، وأعمق من انفعال لحظة.

 

ربما لهذا يمكن القول إن العراق يعيش الآن بداية تشكّل ثقافة سياسية مختلفة؛ ثقافة لا تُقصي الماضي لكنها تفككه، ولا تقدّس الحاضر لكنها تفهمه. ثقافة تعرف أن الوعي ليس بياناً، بل سلوك يومي في مواجهة الكسل الفكري، وأن التغيير يبدأ حين يصبح السؤال نفسه فعلاً.

 

العجز إذن ليس قدراً، بل مرحلة من التاريخ.

وحين يعترف مجتمعٌ بعجزه، يكون قد بدأ أول خطوة في تجاوزه.

ذلك أن الوعي، في نهاية المطاف، لا يولد من الانتصار، بل من فهم الهزيمة.

المشـاهدات 52   تاريخ الإضافـة 03/11/2025   رقم المحتوى 67949
أضف تقييـم