الخميس 2025/11/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 30.95 مئويـة
نيوز بار
المستقلون في البرلمان الخامس
المستقلون في البرلمان الخامس
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب نوري حمدان
النـص :

 

 

 

عندما برزت موجة المرشحين المستقلين في انتخابات عام 2021، بدا للكثير من العراقيين، بأننا أمام لحظة سياسية يمكن أن تغيّر شكل الحياة البرلمانية، وتعيد للناخب بعضًا من ثقته المفقودة بالعملية الديمقراطية. فهؤلاء القادمون من خارج منظومة الأحزاب التقليدية حملوا وعودًا كبيرة بالتحرر من قيود المحاصصة الطائفية والعرقية، وبإعادة الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة التي أرهقتها الانقسامات والخلافات. غير أن التجربة التي امتدت لأربع سنوات في البرلمان الخامس كشفت عن واقع أكثر تعقيدًا مما كان متوقّعًا، وأظهرت أن الطريق من الاستقلال إلى التأثير السياسي ليس مفروشًا بالنوايا الطيبة ولا بالشعارات الإصلاحية وحدها.لقد جاءت ولادة الكتلة المستقلة من رحم احتجاجات تشرين 2019، التي شكّلت نقطة تحوّل في الوعي السياسي والاجتماعي العراقي. تحت ضغط تلك الاحتجاجات أقرّ البرلمان في دورته الرابعة قانون الانتخابات الجديد، الذي قسّم البلاد إلى دوائر متعددة وفتح الباب أمام الترشيح الفردي، وهو ما منح المستقلين فرصة حقيقية للمنافسة. وفي ظل مقاطعة واسعة من الأحزاب المدنية والحركات التشرينية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي الذي انسحب من البرلمان استجابةً لمطالب المتظاهرين واحتجاجًا على قمع السلطة، تمكّن عدد من المستقلين من الفوز بمقاعدهم بفضل أصوات غاضبة ومتعاطفة مع خطاب التغيير والإصلاح. لكن ما إن دخلوا قبة البرلمان حتى اصطدموا بواقع سياسي تحكمه تحالفات ما قبل الدولة لا مؤسساتها، وبموازين قوة لا تسمح للكلمة الحرة أن تتجاوز حدود المصلحة الحزبية الضيقة.في الأشهر الأولى لانعقاد البرلمان الخامس، وجدت القوى الكبرى نفسها أمام كتلة غير منظّمة من المستقلين، تتباين خلفياتهم وتفتقر إلى برنامج عمل موحّد. ولأن السياسة في العراق لا تعترف بالفراغ، سارعت الأحزاب المتنفّذة إلى استغلال هذا التشتت. فالإطار التنسيقي، بمرونته التقليدية في إدارة التحالفات، تعامل مع المستقلين بذكاء مصلحي؛ فاحتوى جزءًا كبيرًا منهم عبر إغرائهم بالمناصب التنفيذية والوعود بالمشاريع والمحصّصات، أو بتسهيل حضورهم في اللجان النيابية المؤثرة. أما التيار الصدري، الذي دخل الانتخابات بقوة وخرج منها بأزمة سياسية عاصفة، فقد حاول بدوره استمالة المستقلين ليشكّل بهم ثقلًا موازنًا للإطار، خصوصًا في محطات تشكيل الحكومة والتصويت على رئاستها، لكنه وجد نفسه أمام كتلة مترددة تتقاذفها الضغوط والمغريات من كل صوب.لم يكن المستقلون على قلب رجل واحد. فالقسم الأكبر منهم، ومع مرور الوقت، انجرف تدريجيًا نحو ما يمكن تسميته "منطق الواقعية السياسية"، وهو تعبير مهذّب عن الخضوع لسلطة المحاصصة التي وعدوا الناس بإنهائها. دخل هؤلاء في صفقات وتفاهمات مع الكتل التقليدية، بعضها علني وبعضها الآخر جرى خلف الأبواب المغلقة، فتحوّل الاستقلال إلى انتماء جديد بلا لافتة حزبية معلنة. بل إن بعض النواب المستقلين أصبحوا لاحقًا واجهات سياسية لقوى معروفة، يستخدمون صفتهم المستقلة لتجميل قرارات ومواقف تصدر في جوهرها من غرف الأحزاب الكبرى.في المقابل، بقيت قلّة من النواب متمسّكة بمعنى الاستقلال الحقيقي. هؤلاء أدركوا منذ البداية أن موقعهم داخل البرلمان لا يُقاس بعدد المقاعد بل بصلابة الموقف. واجهوا تهميشًا متعمّدًا، وأُقصوا من اللجان المهمة، وتعرّض بعضهم لحملات تشويه في الإعلام ومواقع التواصل، لكنهم حافظوا على خطابهم النقدي، وسعوا إلى تقديم نموذج بديل في العمل التشريعي والرقابي، حتى وإن كان تأثيرهم محدودًا. هؤلاء هم الذين أعادوا شيئًا من الثقة للمواطن بأن صوت تشرين لم يُخمد بالكامل، وأن هناك من ما يزال يرى في الاستقلال موقفًا أخلاقيًا قبل أن يكون شعارًا انتخابيًا.أحد الاختبارات التي كشفت بوضوح طبيعة الانقسام بين المستقلين كان التصويت على القوانين الحساسة، وفي مقدّمتها قانون الأحوال الشخصية. فبينما اختار بعض النواب الوقوف مع تعديلات تدفع باتجاه تكريس النفوذ الطائفي في التشريع، بحجة الحفاظ على "الخصوصيات المذهبية"، وقف آخرون بصلابة ضد أي محاولة للمساس بوحدة القانون المدني وحقوق المرأة والمواطنة. بالنسبة إليّ، كان ذلك لحظة كاشفة، لأن الموقف من هذه القضايا لا يتعلق فقط برؤية قانونية، بل بمفهوم أعمق للهوية الوطنية وحقوق الإنسان، وهو المعيار الذي يمكن من خلاله قياس مدى صدقية الاستقلال السياسي. فالاستقلال ليس أن أكون بلا حزب، بل أن أكون بلا تبعية فكرية أو مصلحية تُملى عليّ مواقفي.حين أتابع جلسات البرلمان وأرى كيف يصوّت بعض المستقلين انسجامًا مع رغبة الكتل التي يفترض أنهم يعارضونها، أشعر بأن المشكلة لم تكن في النظام الانتخابي بقدر ما كانت في الوعي السياسي. فالقانون منح فرصة، لكنه لم يمنح مشروعًا. والناخب الذي صوّت للمستقل لم يكن يبحث عن شخصية فردية فحسب، بل عن بديل جماعي، عن جيل سياسي جديد يحمل همّ الدولة لا المذهب ولا العشيرة. ولكن معظم المستقلين دخلوا البرلمان من دون قاعدة تنظيمية، ومن دون رؤية استراتيجية تربط بين التمثيل الشعبي والعمل التشريعي، فكان من السهل تفكيكهم وابتلاعهم داخل منظومة المصالح القديمة.ما حدث داخل البرلمان الخامس يعكس، في نظري، معضلة أعمق تتجاوز الأشخاص إلى بنية النظام السياسي نفسه. فالنظام الذي يقوم على تقاسم السلطة بين المكونات لا يتيح مساحة حقيقية للاستقلال، لأن كل قرار كبير يحتاج إلى توافق طائفي أو إثني مسبق. وهذا ما جعل المستقلين، مهما كانت نواياهم صادقة، عاجزين عن فرض مبادرات تشريعية أو رقابية ذات أثر حقيقي. حتى حين حاول بعضهم الدفع نحو قوانين إصلاحية، مثل تفعيل قانون "من أين لك هذا؟" أو تعديل قانون الانتخابات بما يضمن عدالة التمثيل، وجدوا أنفسهم محاصرين بلجان شكلية وتفسيرات دستورية تعيدهم إلى نقطة الصفر.في هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الحركات المنبثقة عن تشرين مثل "امتداد" و"إشراقة كانون". هذه الحركات، رغم محدودية مقاعدها، مثّلت محاولة لبلورة كتلة سياسية مستقلة الهوية، لكنها سرعان ما واجهت انقسامات داخلية وصراعات على القيادة، مما أضعف قدرتها على تمثيل الصوت التشريني داخل البرلمان. لقد اكتشفت هذه الحركات مبكرًا أن العمل السياسي المؤسسي في العراق لا يحتمل الطهر الثوري طويلًا، وأن التحالف مع قوى تقليدية يصبح في كثير من الأحيان خيارًا اضطراريًا للبقاء داخل اللعبة البرلمانية.ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة في 11 تشرين الثاني 2025، أجد نفسي أتأمل تجربة السنوات الأربع الماضية بشيء من القلق والمرارة. فالمستقلون الذين وعدونا بتغيير المعادلة السياسية أصبحوا جزءًا منها، والذين تمسكوا بمبادئهم وجدوا أنفسهم خارج دائرة التأثير. أما الشارع الذي منحهم صوته فقد عاد إلى حالة اللامبالاة، مقتنعًا بأن لا جدوى من صندوق الاقتراع ما دام القرار السياسي يُصنع في أماكن أخرى. إن أخطر ما يمكن أن تتركه تجربة المستقلين هو هذا الإحباط الشعبي الذي يغذي عزوف الناس عن المشاركة، ويمنح القوى التقليدية فرصة جديدة لإعادة إنتاج نفوذها عبر جمهور منسحب وصامت.حين أقرأ البرامج الانتخابية الأولية التي بدأت تظهر استعدادًا لانتخابات 2025، ألاحظ أن معظمها لا يخرج عن الشعارات العامة: مكافحة الفساد، تحسين الخدمات، دعم الشباب، وتطوير الاقتصاد. لكنها تفتقر إلى خطط عملية أو آليات تنفيذية. وحتى بعض المرشحين الذين يعلنون استقلاليتهم اليوم يبدون أكثر حرصًا على عدم الاصطدام بالكتل الكبرى، وكأنهم يهيئون أنفسهم مسبقًا للتكيّف مع النظام بدل تغييره. وهذا ما يجعلني أعتقد أن الانتخابات المقبلة ستكون سياسية أكثر منها انتخابية؛ أي أنها ستعيد ترتيب التحالفات داخل البرلمان وفق توازنات القوى التقليدية، من دون أن تُحدث تحولًا نوعيًا في البنية الحزبية أو في وعي الناخب.لقد أثبتت التجربة أن الاستقلال لا يُقاس بعدد المقاعد ولا بنسبة الأصوات، بل بالقدرة على الصمود أمام إغراءات السلطة وضغوطها. والمشكلة ليست في أن بعض المستقلين أخطأوا، فهذا طبيعي في أي تجربة ديمقراطية ناشئة، بل في أن المنظومة السياسية نفسها لا تسمح بظهور معارضة وطنية مستقلة ذات تأثير حقيقي. فالمال السياسي، والإعلام الحزبي، ونظام المحاصصة، كلها أدوات صُمّمت لإبقاء اللاعبين التقليديين في الواجهة. ولذلك، فإن أي محاولة لبناء تيار مستقل فعلًا تحتاج إلى ما هو أبعد من الفوز الانتخابي؛ تحتاج إلى مشروع وطني طويل النفس، يبدأ من الوعي وينتهي ببناء مؤسسات بديلة قادرة على ممارسة السياسة من خارج منطق الغنيمة.أؤمن أن تجربة البرلمان الخامس، رغم إخفاقاتها، لم تكن بلا جدوى. فقد كشفت حدود اللعبة، وعرّت ازدواجية الخطاب السياسي، وأعادت تعريف مفهوم "الاستقلال" في الوعي الجمعي. من الآن فصاعدًا، لن يكون كافيًا أن يعلن المرشح أنه مستقل كي ينال ثقة الناس، بل سيتعين عليه أن يبرهن على استقلاله بالعمل والموقف والسلوك. وأظن أن بعض المستقلين الذين حافظوا على نقائهم خلال هذه الدورة يمكن أن يشكّلوا نواة لتيار سياسي وطني إذا استطاعوا تنظيم أنفسهم واستثمار رصيدهم الشعبي في الشارع.أما أنا، فأرى أن الطريق إلى إصلاح السياسة في العراق لا يمر عبر الشعارات، بل عبر إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. فالمستقل الحقيقي ليس من يبتعد عن الأحزاب، بل من يرفض أن تكون الدولة رهينة للأحزاب. حين تنكسر هذه المعادلة، يمكن للبرلمان أن يكون حقًا بيت الشعب لا ساحة صفقات. وحتى يحدث ذلك، سيبقى "المستقلون" عنوانًا جميلًا لتجربة لم تكتمل بعد، وإشارة إلى أمل مؤجل في أن تستعيد السياسة معناها الوطني في وطن أنهكته الاصطفافات.

المشـاهدات 32   تاريخ الإضافـة 05/11/2025   رقم المحتوى 68023
أضف تقييـم