الخميس 2025/11/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 15.95 مئويـة
نيوز بار
الشرق الأوسط في مرايا الغرب
الشرق الأوسط في مرايا الغرب
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

منذ ولادة الولايات المتحدة، شكلت فكرة التفوق الأبيض حجر الزاوية في تصور الهوية الوطنية والاجتماعية. لم تكن هذه الفكرة مجرد تصنيفات عابرة للبشر وفق لون البشرة أو الدين، بل كانت أداة للهيمنة الاجتماعية والسياسية، تحاول أن تضع "المسيحي النقي" في القمة وتحدد من هو "مستحق" للفرص. هذا التمييز لم يتوقف عند حدود الداخل الأميركي؛ بل امتد إلى تصور الشرق الأوسط، الذي بات منذ نشأة الدولة الأميركية أرضاً غامضة، "حيوانية" في نظر العقل الغربي، يسهل تجاهلها أو إعادة تشكيلها وفق المصالح الاقتصادية والسياسية.

 

الغرب، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، تبنى منذ البداية سياسة محو التاريخ العربي من المناهج التعليمية، متعمداً خلق فجوة معرفية تجعل الشعوب غير قادرة على فهم الشرق الأوسط إلا من خلال عدسة مغلوطة، تتجاهل إنجازاته التاريخية وحضارته العلمية. الفكرة لم تكن عشوائية؛ فقد وُلدت في عقل المستعمرين الأوروبيين، الذين لم يردوا أن يعرف الرعايا كيف تمكن العرب من بناء إمبراطوريات قوية، أو أن الثقافة الإسلامية أنتجت العلوم والفلسفة وعلم الفلك، وأن هذا التاريخ الغني يشكل تحدياً لسردية الغرب التي تصوره مركزاً للعالم والأمم الأخرى ((تابعة)) ومتكاملة في خدمة مصالحه.

 

هذه النظرة المشوهة ترسخت منذ المراحل المبكرة من الولايات المتحدة. بعد الاستقلال عام 1776، كانت الدولة الوليدة مفلسة، تعيش أزمة اقتصادية حادة، ولا تستطيع تمويل جيش أو إدارة مواردها بفعالية. كانت التجارة الوسيلة الأساسية للبقاء، وكان البحر المتوسط ساحة أولى لتجارب القوة الأميركية خارج الحدود. هنا، ظهرت أولى تدخلات الولايات المتحدة في شمال إفريقيا، عندما قررت مواجهة القراصنة البربريين، مؤسِسة بذلك سابقة للحروب الأميركية خارج القارة، ولكن بأسلوب تجاري وعسكري محدود، مختلف عن النهج الأوروبي الذي كان يعتمد على الاحتلال العسكري المباشر.

 

في هذا السياق، نشأت فكرة "الشرق الأوسط العظيم في ماضيه، الضعيف في حاضرِه" في العقل الأميركي. لم يكن الهدف مجرد الغزو أو السيطرة، بل كانت هناك محاولة لإعادة كتابة تاريخ المنطقة وفق تصور محدد: حضارة عظيمة متوقفة، تحتاج إلى "إصلاح" خارجي. هذه النظرة، الممزوجة بالإعجاب والتحقير في آن واحد، ساهمت في ترسيخ صورة الشرق الأوسط في الإعلام والمناهج الغربية، فظهر العرب كأناس متخلفين، غير قادرين على إدارة إرثهم الثقافي والعلمي، بينما تُحذف إنجازاتهم الكبرى من الوعي الغربي.

 

لكن الولايات المتحدة لم تكن الوحيدة التي أساءت قراءة الشرق الأوسط. أوروبا، مع ذلك، تبنت مقاربة أكثر تقليدية، مبنية على الاستعمار والهيمنة العسكرية والسياسية، مستغلة الطوائف المسيحية كذريعة للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية، دون أن تكون مهتمة فعلياً بالمجتمعات العربية نفسها. في المقابل، اعتمد الأميركيون على ما يمكن تسميته بالقوة الناعمة، من خلال التعليم والمستشفيات والدبلوماسية، لكن هذا النهج لم يكن بريئاً : بل كان جزءاً من رؤية استراتيجية طويلة المدى، تهدف إلى تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم مصالحهم الاقتصادية والسياسية.

 

الاقتصاد، كان المحرك الأساسي لتورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. بعد اكتشاف النفط في بنسلفانيا عام 1861، أدركت أميركا تدريجياً أهمية الطاقة كمورد استراتيجي. بالمقابل، كانت بريطانيا أسرع وعياً ، متجهة إلى العراق ( اكتشاف النفط في كركوك عام ١٩٢٧). وإيران ( بلاد فارس  اكتشاف النفط عام  ١٩٠٨)، لتأمين مصادر النفط، في حين بقيت الولايات المتحدة متأخرة نسبياً بسبب وفرة النفط المحلي. مع ذلك، وبحلول عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الشركات الأميركية بالتنقيب عن النفط في السعودية، مدفوعة بحاجة البلاد المتزايدة للطاقة وصعود دور النفط في الاقتصاد العالمي.

 

الحروب الكبرى ساهمت بشكل مباشر في إعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي ودوره في العالم. الحرب العالمية الأولى أظهرت هشاشة الاقتصاد الأوروبي، لكنها لم تمنح الولايات المتحدة سوى فرصة لتعزيز تجارتها، بينما كانت الحرب العالمية الثانية استثناءً نادراً، حيث خلقت طلباً هائلًا على الإنتاج العسكري، مما أخرج البلاد من الكساد الكبير في الثلاثينيات. بعد ذلك، دخلت فكرة "التقادم المخطط" حيز التطبيق، لضمان استمرار الاستهلاك وتحفيز الاقتصاد، وهي رؤية تتناغم مع الطبيعة الرأسمالية الأميركية، القائمة على الإنتاج الفائض والتسويق المستمر.

 

في السياق السياسي، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في تأسيس إسرائيل، مدفوعة بمزيج من الشعور بالذنب بعد الهولوكوست والمصالح الجيوسياسية للحرب الباردة. الصهيونية لم تكن مجرد حركة وطنية لليهود، بل مشروعاً لتشكيل أغلبية يهودية اصطناعية في فلسطين، على حساب السكان العرب، ما أدى إلى طرد جماعي وتحويل فلسطين إلى كيان يقيم فصلاً عنصرياً بحكم الواقع. دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، سواء في التصويت للأمم المتحدة أو بالتمويل العسكري والسياسي، كان جزءاً من استراتيجية احتواء الاتحاد السوفيتي وضمان حليف في قلب الشرق الأوسط.

 

هذه السياسات التاريخية والأيديولوجية خلقت صورة نمطية عن العرب، تمتد من التعليم إلى الإعلام، ومن السياسة إلى الثقافة الشعبية الغربية. العرب الذين اخترعوا الحضارة، وأنقذوا الفلسفة اليونانية، وابتكروا العلوم والطب والفلك، أصبحوا في الوعي الغربي "متخلفين"، يُحذف تاريخهم الذهبي من الكتب المدرسية، ويُصوّرون كأعداء أو مستهلكين للنفوذ الغربي، في لعبة سياسية تقوم على مبدأ "فرّق تسد".

 

ولا يمكن تجاهل دور السينما الأميركية، التي على مدى المئة سنة الماضية لعبت دوراً حضارياً وثقافياً بالغ التأثير في تشكيل الوعي الغربي. فهوليوود لم تكتفِ بسرد القصص، بل صاغت صوراً نمطية عن الشعوب: الروس دائماً خائنون وجبناء، العرب زير نساء وقتلة وطائفة جاهلة، الصينيون ساذجون. هذا الفن، الذي يرتبط بالفلسفة والموسيقى والأدب والإبداع، أصبح أداة لصناعة الانطباعات الجماعية عن الآخرين، تماماً كما تفعل الآيديولوجيات السياسية، لكنه يصل إلى الناس بطريقة أكثر سلاسة، ويترسخ في اللاوعي الغربي. السينما إذن ليست مجرد ترفيه، بل فعل حضاري وسياسي يساهم في إعادة إنتاج الصورة المشوهة للشرق الأوسط، ويكمل ما حاولت السياسات الغربية والمناهج التعليمية تحقيقه على مدى قرون.

 

لكن ما لا يمكن تجاهله أيضاً، هو البعد الديني والحضاري للصراع. فالخوف من الإسلام لم يكن مجرد مسألة سياسية أو قومية، بل كان مواجهةً لروح حضارة كاملة، مترسخة في معرفة وعلم وفلسفة، لا يمكن للغرب تجاوزه بسهولة كما يمكن تجاوزه العرب كقومية. الصراع هنا لم يكن على الأرض فحسب، بل على المعنى والروح، على الصورة التي يشكلها الغرب عن الإسلام وعن المسلمين، وهو ما دفع بعض المستشرقين والمفكرين الغربيين، أحياناً بتواطؤ صامت من جماعات يهودية كما تقول الروايات التاريخية، لمحاولة ضرب هذا العمق الحضاري، وإضعاف مصداقيته أمام شعوبهم قبل شعوب العالم الإسلامي. في هذا الضوء، يصبح فهم التاريخ العربي الإسلامي أكثر من مجرد سرد أحداث؛ إنه قراءة للصراع الروحي والفكري الذي لم ينتهِ بعد، والذي يفسر كثيراً من المأساة التي نعيشها اليوم.

 

ولعل الحلول الممكنة لهذه الصورة المشوهة ولصراعات الشرق الأوسط، خاصة القضية الفلسطينية، تحتاج إلى مواجهة الواقع بعقلانية وموضوعية. النظام الإسرائيلي القائم على خلق أغلبية يهودية اصطناعية يفرض تقسيماً جغرافياً وسياسياً يجعل حل الدولتين شبه مستحيل، في حين تبقى الدولة الواحدة العلمانية خياراً نظرياً لكنه يحمل ضمانات للأقليات ويعيد الحقوق للفلسطينيين. لكن السياسات الأميركية والدعم المستمر لهذا النظام، تعزز الرؤية المعقدة للعالم العربي في العقل الغربي، وتزيد من تعقيد الحلول الواقعية للصراعات في المنطقة.

 

من هنا، يمكن القول إن ما نراه اليوم من سياسات أميركية تجاه الشرق الأوسط ليس مجرد صدفة تاريخية، بل نتاج منظومة فكرية وتجارية وسياسية تشكلت منذ ولادة الولايات المتحدة، مدفوعة بالعنصرية، بالاقتصاد، وبمخاوف من "الآخر المختلف". هذه المنظومة اختارت تجاهل التاريخ العربي، إعادة كتابته، وصناعة تصور عن المنطقة كأرض غامضة، ضعيفة، تحتاج إلى إصلاح خارجي، وهو تصور ما زال يترسخ في الثقافة الغربية والإعلام حتى اليوم.

 

وبينما يختفي التاريخ الحقيقي للشرق الأوسط من المناهج الغربية، يظل السؤال مفتوحاً : كيف يمكن للعالم أن يفهم حقيقة المنطقة، إن لم يتم تصحيح الروايات التاريخية التي شكّلت وعي الغرب؟ إن قراءة التاريخ العربي والإسلامي خارج سياق التحيز الغربي، ومراجعة السياسات الأميركية تجاه المنطقة، ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل خطوة أساسية لفهم حاضر الشرق الأوسط والتعامل مع مستقبله بطريقة أكثر عدلًا وواقعية.

المشـاهدات 95   تاريخ الإضافـة 05/11/2025   رقم المحتوى 68038
أضف تقييـم