الإثنين 2025/11/17 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
ذاكرة لا تُغلق
ذاكرة لا تُغلق
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

ليست المشكلة أن الجيل الجديد لا يعرف ما حدث؛ فالمعرفة يمكن أن تُكتسب من كتاب أو شهادة أو حتى من صدفة في مقهى قديم. المشكلة الحقيقية أنّه وُلد وهو يظن أنّ اللحظة التي أمامه هي بداية التاريخ. وهذا ليس ذنبه؛ فبلاد يتعاقب عليها الخراب كما تتعاقب الفصول، لا تمنح أبناءها فرصةً لالتقاط أنفاس تكفي لكتابة فصلٍ واحد مكتمل المعنى.

من منتصف القرن الماضي وإلى اليوم، انحدرت على العراق موجاتٌ من الأسى: حروب تتوالد من بعضها، حصار طويل كأنّه عكاز الزمن، وانقلابات تهزّ الأرض تحت الأقدام. ومع كل هذا، بقيت الذهنيات القديمة ممتدةً مثل خيوط عنكبوت لا تُرى، لكنها تقيّد الحركة وتعيد تشكيل الوعي.

المفارقة أنّ الماضي عندنا لا يلوّح من بعيد، بل يمشي معنا. يضع يده الثقيلة على كتف كل جيل جديد ويهمس له:

“أنت نسخةٌ مني، شئت أم أبيت.”

وما لم يتعلّم المجتمع كيف يصالح ذاكرته بدل أن يخاف منها، لن يستطيع المستقبل أن يقترب، ولو كان يقف على بعد خطوة.

تجربة الجار التركي مثالٌ بليغ: أعاد ترتيب ماضيه دون أن يسمح له بابتلاع الحاضر. جذورٌ تحت الأرض، وحداثة فوقها. أما نحن، فندخل العالم بذهنيةٍ ما زالت تُختبر للمرة الأولى، ونظن أن الحقائق تُختصر في آراء سماعية أو صور قديمة لا تصلح لقياس زمن جديد.

تخيّل جيل الخمسينيات الذي خرج من طفولته إلى ساحات القتال مباشرة، ثم جيل الستينيات، ثم السبعينيات، وصولاً إلى الراهن الذي يحاول أن يرمّم نفسه حجراً حجراً. كل جيل حمل على ظهره صخور التجربة، لكنه لم يسلّم للأجيال التالية معرفةً واضحة، بل سلّمها خوفاً، واحترازاً، وذكرياتٍ مُثقَلة أكثر مما ينبغي.

والأدهى من ذلك أنّ كثرة الاستشهادات بالماضي لم تُخرج جيلاً واعياً، بل جيلاً مغلقاً على نفسه؛ جيلاً يحفظ التاريخ كتعويذة، لكنه لا يفكّكها، ولا يسأل: هل ما زالت صالحة؟ جيلٌ لا يحب تجربة التطوير، يختار السكينة في ظل الأمس بدل المغامرة في ضوء اليوم. لا يريد واقعية جديدة لأن واقعيته ورثها كما تُورّث قطعة أثاث.

وهنا العقدة المركزية:

جيلٌ يسلم لجيلٍ آخر مفاتيح الإحباط نفسها، كأنّ اليأس وديعة عائلية يُمنع كسرها. بعد 2003، كانت البلاد على مفترق طرق نادر، فرصة كان يمكن أن تعيد رسم الخريطة وتجعله يشبه كوريا الجنوبية أو سنغافورة. لكن ما حدث أنّ العراق دخل مرحلة جديدة بوجهٍ قديم، وتعرّض لنكباتٍ متتابعة كأن أحداً أدار الساعة إلى الخلف بينما كنا نظنها تتقدّم.

الفهم الحقيقي لا يبدأ من الأحداث وحدها، بل من اللغة التي نستخدمها لقراءتها. اللغة ليست كلمات؛ إنها عدسةٌ كاملة. وكلما تحدّث المجتمع بمفردات وُلدت في ظروفٍ منتهية، أعاد إنتاج تلك الظروف دون قصد. الثورة الفرنسية لم تبدأ بقطع الرؤوس، بل بقطع الالتباس اللغوي؛ أعادت تعريف المفاهيم فأعادت تعريف الإنسان نفسه. أما نحن، فقد أعدنا الكثير من الألقاب والمصطلحات القديمة إلى الواجهة، حتى صارت المفاهيم الاجتماعية أقوى من أي قانون حديث.

لسنا في مأزق سياسي فقط؛ نحن في مأزق سردي وثقافي وتخيّلي. نبدّل الأشخاص، لكننا لا نبدّل الحكاية. نغيّر الطلاء، لكن الجدار ذاته يبقى في مكانه. من دون قراءة صادقة للتاريخ القريب، سنظل كالسائر في غرفة مظلمة تتغيّر فيها المقاعد بينما يظل الجدار شاهقاً لا يتحرك.

الوعي لا يُفرض ولا يُنقل. يُكتسب حين نواجه الماضي دون خوف، حين نفهمه لا لندينه، بل لنخرج منه. ومن دون ذاكرة مفتوحة لا يمكن تخيّل مستقبل جديد، ومن دون لغة جديدة لا يمكن كتابة صفحة جديدة أصلاً.

وهكذا، بين ماضٍ يرفض أن يبتعد، ومستقبلٍ ينتظر أن نضبط ساعتنا عليه، يقف جيل كامل يبحث عن باب خروج… بابٌ لا يُفتح إلا بالمعرفة، ولا يُرى إلا بالقراءة، ولا يُعبر إليه إلا حين نجرؤ أخيراً على تغيير المفردات التي تصوغ وعينا قبل أن تصوغ أيامنا.

المشـاهدات 42   تاريخ الإضافـة 16/11/2025   رقم المحتوى 68356
أضف تقييـم