الخميس 2025/12/11 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 16.95 مئويـة
نيوز بار
صنّاع المحتوى…بناء للمعرفة أم تهديد للوعي
صنّاع المحتوى…بناء للمعرفة أم تهديد للوعي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب مصطفى طارق الدليمي
النـص :

 

 

 

في السنوات الأخيرة تحوّل الفضاء الرقمي في العراق إلى ساحة صراع مفتوحة تتقاطع فيها الرغبة بالشهرة مع غياب التنظيم وتختلط فيها الأصوات الهادفة مع الضجيج الفارغ وبات صانع المحتوى ذلك الذي يحمل هاتفاً ويظهر في مقطع قصير قادراً على التأثير في الأجيال الشابة أكثر مما تؤثر المؤسسات الإعلامية التقليدية بكل تاريخها ..هذا الصعود السريع خلق حالة اجتماعية معقّدة لا يمكن تصنيفها بين الإيجابي والسلبي بشكل قاطع لكنها بالتأكيد أصبحت قوة لا يمكن تجاهلها ففي الجانب المظلم من هذه الظاهرة انتشرت موجة من المحتوى المبتذل الذي يقتات على إثارة المشاعر السلبية والشتائم والتجريح والسخرية وكأن "الترند"أصبح مرادفاً للتجاوز على قيم المجتمع مقاطع العنف المفتعل تحديات الإيذاء الرسائل السامة والخطاب الهابط تحولت إلى مادة يومية في شاشات الهواتف تُشاهد ملايين المرات وتُعاد مشاركتها دون أي وعي بعواقبها وتشير تقارير دولية إلى أن أكثر من 64% من مستخدمي الإنترنت حول العالم يتعرضون أسبوعياً لمحتوى مضلل أو مؤذٍ وهو رقم يصبح أكثر خطورة في بلد مثل العراق حيث تصل نسبة مستخدمي الإنترنت إلى أكثر من 78% من السكان ومع غياب منظومة تشريعية ورقابية متماسكة وجد البعض أن الطريق الأسهل للشهرة هو الصدمة والإساءة ليولد شكل جديد من "الإرهاب الناعم" الذي لا يحمل سلاحاً بقدر ما يخدش الذوق العام ويعمّق الانقسامات ويؤثر في سلوك فئات واسعة من الشباب لكن مقابل هذه الصورة القاتمة برزت نماذج عراقية مشرقة أثبتت أن صناعة المحتوى يمكن أن تكون علماً وفكراً ورسالة أطباء يقدّمون استشارات وتوعية صحية مجانية مهندسون يعرضون خبراتهم التقنية أساتذة جامعات يبسّطون العلوم بلغة يفهمها الجميع ومبدعون يحوّلون تجاربهم الشخصية إلى قيمة معرفية تحترم وعي المتلقي هؤلاء يمثلون الوجه الحقيقي للمحتوى الهادف وقد نجحوا في سدّ فجوات تركها الإعلام التقليدي خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والاقتصاد بل إن بعضهم أصبح مرجعاً جماهيرياً في أوقات الأزمات كما حدث خلال جائحة كورونا حين تحولت حساباتهم إلى قنوات توعية يعتمد عليها الناس يومياً..وما بين المحتويين يقف المجتمع مرتبكاً أمام مشهد رقمي غير منظم تتحكم به خوارزميات لا تعترف بالقيم ولا بمعنى "المصلحة العامة" فالدول المتقدمة اتجهت في السنوات الأخيرة إلى تنظيم مهنة صانع المحتوى بقوانين واضحة كما فعلت الإمارات والسعودية ومصر عبر تشريعات تحدد مسؤوليات الناشر الإلكتروني وتحاسب المسيء أما في العراق فالفجوة التشريعية لا تزال واسعة مما يسمح باستمرار الفوضى ويدفع البعض إلى استخدام المنصات الرقمية كأداة ضغط أو إساءة أو تسقيط اجتماعي..إن السؤال المطروح اليوم لا يتعلق بإلغاء صُنّاع المحتوى أو الحدّ من وجودهم بل يتعلق بقدرة الدولة والمجتمع على ضبط قواعد اللعبة الرقمية فالقوة التي يمتلكها المؤثر اليوم تعادل أحياناً تأثير الإعلامي والسياسي بل تتخطاها لما تتمتع به من سرعة الوصول وقوة الانتشار ولهذا فإن التعامل مع هذه الظاهرة لم يعد خياراً ثانوياً بل ضرورة لحماية الفضاء الاجتماعي وصناعة وعي رقمي مسؤول..في النهاية ليس كل صانع محتوى عابثاً كما ليس كل محتوى هابطاً لكن ترك الساحة بلا قواعد يجعل السيئ أعلى صوتاً من الجيد ويمنح الفوضى مساحة أكبر من الوعي وبين هذا وذاك يحتاج العراق إلى رؤية وطنية حقيقية تُعيد ضبط المعايير وتشجع المحتوى الهادف وتقف بحزم أمام المحتوى المسيء ..فالمعادلة اليوم واضحة: إما فضاء رقمي يبني الإنسان..وإما فوضى رقمية تلتهم ما تبقى من وعيه.

 

المشـاهدات 68   تاريخ الإضافـة 10/12/2025   رقم المحتوى 68756
أضف تقييـم