سقوط الجدار الرابع
![]() |
| سقوط الجدار الرابع |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب كتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
على خشبة المسرح، لم يكن الجدار الرابع حجراً ولا خشباً ولا ستاراً، بل وهماً ضرورياً… وهماً يحتمي به الممثل كي يتقمّص شخصيته دون أن تصفعه حقيقة الوجوه الماثلة أمامه. فالممثل يعيش بين ثلاثة جدران مغلقة، والرابع مفتوح بالكامل على الجمهور؛ ولئلا تتسرّب الحقيقة إلى داخله فيفلت منه التقمّص، يخترع بينه وبين النظّارة جداراً خفيفاً، شفافاً، لكنه صلب في أثره… جداراً يقنعه بأن الجمهور غير موجود، أو على الأقل لا ينبغي الالتفات إليه. ذلك الجدار الوهمي لم يكن مجرد خدعة مسرحية، بل تمريناً على الضمير، على الرقابة الداخلية، على قدرة الإنسان في أن يعيش دوره دون أن ينهار تحت العيون المتربّصة.
لكن هذا الجدار—كما يبدو—لم يبقَ على الخشبة. امتدّ إلى الصحافة، إلى السياسة، إلى الدين، إلى المعرفة، إلى كل فضاء يحتاج إلى مسافة آمنة بين “المؤدي” و”المتلقي”. كانت غرف التحرير جداراً رابعاً أيضاً، يحمي الكلمة قبل خروجها، يصفّيها من شوائب الانفعال والارتباك. وكانت المنابر السياسية تحرس الخطيب من ردّات الفعل المباشرة. وكانت الفتاوى محاطة بوقار المسافة والزمن، كأنها تخرج من غرفة مغلقة برائحة الورق والحبر لا من شاشة مضيئة على الهاتف.
ثم انهار كل شيء.
سقط الجدار الرابع سقوطاً مدوّياً، لا خشبة مسرح بعده ولا كواليس. صار السياسي مكشوفاً تحت ضوءٍ لا يرحم، تُطارده التغريدات كحجارة صغيرة تنهال عليه من كل زاوية. وصارت الشركات على مسرح مفتوح: منتَجٌ واحد غير موفق، فيسقط جدار السمعة خلال دقائق. حتى حياتنا نحن، البسطاء الذين كنا نختبئ خلف خصوصيتنا، صرنا ممثلين رغماً عنا، نؤدي أدوارنا أمام جمهور لا ينام، يصفّق أو يسخر أو يهاجم بلمسة إصبع.
والمعرفة؟ لم تسلم. الفتوى التي كانت تحتاج وقتاً لتختمر، صارت تُرمى في الفضاء الرقمي كتعليق عابر. الرأي العلمي، الموقف الفكري، الخبرة المتراكمة… كلها وجدت نفسها تحت مجهر دائم، حيث الجميع ناقد، والجميع محلّل، والجميع واثق بأنه يرى ما لا يراه المتخصصون. لم يعد لأصحاب السلطة المعرفية جدرانٌ تحميهم من استنزاف الجدل، ولا من الانحدار إلى التبسيط والتسطيح.
الرقيب الرسمي أيضاً فقد جزءاً من سلطته، والرقيب الداخلي في الإنسان أُنهِكَ… فما دامت المعلومة تسبق الظلّ، وما دامت المسافة بين الفعل وردّ الفعل لحظية، فما الحاجة إلى جدران؟ صارت العلاقة مباشرة، حادّة، مثل سلك مكشوف يمر فيه التيار بلا عازل.
قد يبدو هذا الانهيار كارثة—وفعلاً هو كذلك أحياناً—لكن له وجهه الآخر: إنه ولادة حرية جديدة، بلا وسيط ولا بوّاب. الإنسان يقول رأيه، يصرخ، يغنّي، يتعثّر، ينهض… وكل شيء يُعرض فوراً أمام الجميع. لكن الحرية هنا ليست هدية مجانية؛ إنها مسؤولية ثقيلة، لأن كل كلمة تتحول إلى جزء من السرد العام، وكل صورة تتحول إلى حجرٍ في تشكيل الوعي الجمعي.
هكذا نعيش في عصر الديمقراطية الفورية: عصر الفوضى أيضاً. فيه يمتزج الجدّ بالتهكّم، الحقيقة بالوهم، العرض المسرحي بالشارع، ويمّحي الخط الفاصل بين الممثل والجمهور حتى لا يعود أحد يعرف من الذي يؤدي الدور ومن الذي يصفّق.
وربما ما نحتاجه ليس إعادة بناء الجدار الرابع، ولا الحنين إلى زمن الجدران، بل اكتشاف فنّ جديد: كيف نواصل العيش في فضاء مفتوح بالكامل بلا حماية، ونحافظ مع ذلك على وقار الكلمة، وعلى عمق المعنى، وعلى تلك المسافة الضرورية التي تمنع الإنسان من الانكشاف الكامل ومن الابتذال.
سقوط الجدار الرابع ليس نهاية المسرح… إنه بداية عرض جديد، عرض يشارك الجميع في كتابته، حيث لا يوجد ممثل يختبئ، ولا جمهور يصمت، وكل يوم مشهد، وكل كلمة أداء، وكل حياة مسرح مفتوح للجميع. |
| المشـاهدات 72 تاريخ الإضافـة 10/12/2025 رقم المحتوى 68767 |
أخبار مشـابهة![]() |
((الجدار)) في انكسارات الجسد وشهواته |
![]() |
مسرحية مصرية مقتبسة عن نص ((ميراث الريح)) لجيروم لورانس وروبرت لي
سقوط حر.. من نص رمزي إلى معالجة مسرحية تسائل الواقعين المصري والعربي |
![]() |
رئاسة الاقليم تعزي
العراق يتضامن مع تركيا بحادث سقوط طائرة شحن عسكرية |
![]() |
شرطة ديالى تلقي القبض على متهم بالقتل هارب مطلوب الى مكافحة أجرام الدورة
سقوط جرحى من عناصر الأمن باشتباكات مسلحة مع تجار مخدرات اقصى جنوبي العراق |
![]() |
رمز على الجدار
|
توقيـت بغداد









