الخميس 2025/12/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 10.95 مئويـة
نيوز بار
الخوف… أسوأ من العقاب
الخوف… أسوأ من العقاب
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

العقاب حدثٌ له بداية ونهاية، مهما طال. أمّا الخوف، فهو زمنٌ كامل يُزرع داخل الإنسان، ثم يُترك لينمو بلا رقابة. السجين يعرف جدرانه، والمُعاقَب يعرف تهمته، لكن الخائف لا يعرف متى يبدأ الألم ولا متى ينتهي. إنه يعيش في انتظارٍ دائم لشيءٍ قد يحدث… أو لا يحدث أبداً، ومع ذلك ينهش الروح بلا رحمة.

 

الخوف لا يحتاج سوطاً ولا زنزانة. يكفيه أن يقنعك أن تراقب نفسك بنفسك، أن تصمت قبل أن يُطلب منك الصمت، وأن تتراجع قبل أن يهددك أحد. وهنا تبلغ السلطة الاجتماعية وغيرها من السلطات ذروتها: حين يصبح الإنسان حارس سجنه، وجلاد صوته، وعدو فكرته الأولى.

 

أسوأ ما في الخوف أنه لا يُرى. لا يترك كدمات، ولا يثير الشفقة، ولا يُدرج في تقارير حقوق الإنسان. لكنه يفعل فعلَه بهدوءٍ احترافي: يُضعف الذاكرة، يشوّه البوصلة، ويعيد تعريف الكرامة باعتبارها ترفاً غير ضروري. ومع الوقت، يبدأ الإنسان بتجميل خوفه، يسميه حكمة، تعقّلًا، أو “قراءة واقعية للمرحلة”.

 

الخائف لا يُهزم مرة واحدة، بل يُستنزف. تُسحب منه الجرأة قطرةً قطرة، حتى يفقد القدرة على الغضب، ثم على الرفض، ثم على السؤال. وحين يصل إلى هذه النقطة، لا يعود بحاجة إلى قمع؛ لقد تكيّف مع القهر، وصار يعتبره حالة طبيعية من حالات الطقس.

 

الخوف الطويل لا يفسد السياسة فقط، بل يفسد النفس. يحوّل العلاقات الإنسانية إلى معاملات باردة، ويُفرغ الكلمات الكبيرة من معناها: الحب، التضامن، الأمل. تصبح الأبوة مسؤولية بلا دفء، والصداقة حذراً متبادلًا، والضحك تمريناً عضلياً لا أكثر. الإنسان الخائف يعيش، لكنه لا يختبر الحياة.

 

والأخطر أن الخوف قابل للتوريث. لا ينتقل عبر الجينات، بل عبر النظرات، ونبرة الصوت، وطريقة التعامل مع العالم. الطفل الذي يرى أباه خائفاً يتعلم أن الحياة فخ، وأن النجاة في الانكماش. وهكذا يتكاثر الخوف جيلاً بعد جيل، بلا حاجة إلى سلاح.

 

الخوف ليس جهلًا، بل معرفة مشوهة. الخائف يعرف، لكنه يعرف أكثر مما ينبغي، ويتخيل أسوأ مما يحدث. يبني قراراته على سيناريوهات سوداء، ويقيس الناس بنوايا متخيلة، ويعيش في حالة تأهب دائم، كمن ينام بجوار حريق لم يشتعل بعد.

 

لهذا كان الخوف أسوأ من العقاب. العقوبة تُفرض من الخارج، أما الخوف فيُستبطن. العقوبة تُقاوَم أو تُحتمل، أما الخوف فيُعاد إنتاجه ذاتياً. إنه منفى بلا حدود، وسجن متنقل، وعقوبة بلا قاضٍ ولا حكم مكتوب.

 

لكن الخوف، مهما طال، ليس قدراً. لحظة الوعي به هي أول شق في جداره. أن تقول: أنا خائف، دون أن تنحني. أن تعترف به، دون أن تبرره. هنا يبدأ التحول. ليس بالضرورة أن تصرخ في الساحات، أحياناً يكفي أن ترفع صوتك داخل نفسك، أن تستعيد حقك في السؤال، في الاعتراض، في أن تكون مرئياً.

 

الكلام ليس ترفاً، بل فعل نجاة. كل كلمة تُقال في وجه الخوف هي مساحة مستعادة من الحياة. وكل صمت يُكسر هو هزيمة صغيرة للرعب المزمن.

 

في النهاية، البشر لا يتحطمون بالعقوبات وحدها، بل بما يخافون حدوثه أكثر مما يحدث فعلًا.

الخوف لا يقتل الجسد… لكنه يقتل الإنسان.

ولهذا، نعم، الخوف… أسوأ من العقاب.

 

 

المشـاهدات 30   تاريخ الإضافـة 17/12/2025   رقم المحتوى 69054
أضف تقييـم