السبت 2025/12/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 3.95 مئويـة
نيوز بار
الرجل الذي لبس وجوهنا
الرجل الذي لبس وجوهنا
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

ليس السؤال: من كان صدام حسين؟

السؤال الأصدق والأقسى: لماذا ما زلنا نراه، رغم موته، واقفاً بيننا مثل مرآة مكسورة تعكس وجوهاً لا نحب الاعتراف بها؟

 

صدام لم يكن حدثاً عابراً في نشرة أخبار، ولا خطأً فردياً يمكن شطبه من دفتر التاريخ. كان خلاصة طويلة لتاريخ سلطةٍ تتغذّى على الخوف، ومجتمعٍ تعلّم التكيّف أكثر مما تعلّم المواجهة. من لا يحاول فهم صدام خارج ثنائية “القديس أو الشيطان”، سيظل يتخبّط في حاضرٍ مرتبك، لأن الحاضر—للأسف—ابن شرعي لذلك الماضي.

 

ضاعت صورة صدام الحقيقية بين مدائح رخيصة وشتائم سهلة؛ كلاهما مريح، وكلاهما كاذب. فالرجل لم يكن وجهاً واحداً يمكن الإمساك به، بل سلسلة أقنعة تتحرّك بمهارة ممثل مسرحي يعرف جمهوره ويغيّر دوره تبعاً له.

لم يكن الطفل المشرد هو نفسه الشاب المسلّح الذي كان يحلم ببندقية صيد وسيارة جيب، ولا ذاك المنظّر الحزبي، ولا الجنرال، ولا الرئيس، ولا السجين الذي يوزّع السيجار ويستمع إلى فرانك سيناترا. ومع ذلك، لم يكن أيٌّ منهم زائفاً تماماً.

صدام كان مجموع هذه التحوّلات كلها، طبقات متراكبة لا تُفهم إذا فُصلت. الحقيقة لم تكن في وجهٍ بعينه، بل في هذا الخليط الملتبس الذي ظننا أن تبسيطه يريحنا، بينما كان في الواقع يضلّلنا.

 

مأساة صدام—ومأساتنا معه—أنه حمل تقاليد “شقاوة الأزقة” إلى قلب السياسة. نقل منطق العصابة إلى الدولة، ومنطق الثأر إلى الحكم، ومنطق “إضرب قبل أن تُضرب” إلى إدارة مجتمع كامل. الأيديولوجيا لم تكن لديه قناعة عميقة بقدر ما كانت قناعاً أنيقاً يخفي تحتَه غضباً قديماً، وشكّاً مرضياً، وحاجةً دائمة لإخضاع الآخر.

 

في مجتمعات القمع، لا تتشكّل شخصية واحدة، بل يتفتّت الإنسان إلى شظايا. علماء النفس يسمّون ذلك تعدداً قهرياً للأقنعة، لا اضطراباً بالمعنى الطبي فقط، بل حيلة بقاء. تنتقل من وجه إلى آخر بلا ألم: وجه المودّة، وجه القسوة، وجه الحكيم، وجه الجلاد. صدام كان ابن هذا المناخ، لا استثناءً عنه. وربما كان الأبرع في لعب هذه اللعبة.

 

لهذا لم يعرفه أحد حقاً. الطباخون والحلّاقون والمطربون رأوا رجلًا ودوداً يضحك بسهولة، أما الجنرالات ورفاق الحزب، فكانوا يرونه طاغية لا يُؤمَن جانبه. كلاهما صادق، وكلاهما مخدوع. ما شاهده كل طرف كان الوجه المسموح له برؤيته، أما ما وراء ذلك فكان محفوظاً بعناية، خاضعاً لتخطيط عميق. تعلم صدام منذ شبابه من قراءة كتب ميكافيلي فن إدارة الخوف، ومن دراسات ستالين كيفية تحويل الحذر إلى قوة، ومن نبضات نابليون كيفية استخدام السلطة كبنية عقلية، ومن هتلر فهم قوة الرموز والخطاب في صياغة الجماهير. هكذا، بنى حصنه النفسي والسياسي، حيث أصبح الخوف أكثر فاعلية من الاحترام، والسرية أكثر نفوذاً من القوة الظاهرة.

 

حين وصفه المرحوم ( هادي العلوي بأنه ظاهرة عراقية متكررة)، لم يكن يقصد تبرير الرجل، بل تسليط الضوء على البيئة التي أنجبت مثل هذه الظواهر. التاريخ الذي لا يُنقّى من أخطائه يعيد نفسه بلا رحمة، يصنع وجوهاً جديدة لنفس الأنماط القديمة. وصدام لم يكن استثناءً أو انحرافاً، بل تجسيداً طبيعياً لعقلية سياسية لم تفصل عن ماضيها، بل أعادت تدويره، مرتدية بدلة عسكرية ومشحونة بخطاب قومي ليصبح نموذجاً لما يمكن أن يولده التاريخ حين يُترك دون تصفية أو مراجعة.

 

المفارقة الأكثر سخرية جاءت في سجنه. هناك، بعيداً عن القصر والجماهير، أعاد صدام اختراع نفسه. أمام حراسه الأمريكيين—الاثني عشر، بعدد حواريي المسيح—لم يظهر “الوحش” الذي خافوا منه. ظهر رجل يعرف كيف يصطاد التعاطف: نكت، موسيقى غربية، أحاديث شخصية، رسائل إلى زوجاتهم، سيجار يُشعل في المساء كأن الزنزانة صالون بيت. بنى علاقة إنسانية مع من كان يهتف، في المحكمة نفسها، لقتلهم.

 

العقل لا يفهم هذا بسهولة، لأننا نحب الشخصيات المستقيمة: شرير واضح، أو بطل واضح. صدام كان منطقة رمادية كثيفة، وهذا ما يجعله خطراً حتى بعد موته.

 

(الأخطر أن السجن لم يكن له وحده. حراسه خرجوا من العراق، لكن العراق لم يخرج منهم. واحد عاد محطماً بالكحول، آخر انتهى في السجن، ثالث ظل يرى صدام في دخان السيجار، رابع شعر بذنب الخيانة، كأنه سلّم قريباً للموت لا سجيناً، وخامس توقّف زمنه عند صوت سقوط الجسد من تحت المشنقة. الساعة التي أهداها صدام له لم تكن هدية، بل ختماً زمنياً : هنا توقّف كل شيء ).

 

وفي هذه النقطة، لسنا أفضل حالًا منهم. نحن أيضاً توقّف زمننا. نعيش داخل زنزانة ذهنية اسمها:

السلطة غنيمة، والشعب أسرى.

 

لم نفهم صدام حقاً، ليس لأنه لغز مستحيل، بل لأن فهمه كان يتطلب مواجهة أنفسنا بلا أقنعة، رؤية التفاصيل الصغيرة التي تخفيها الضوضاء الكبرى، والانتباه إلى الفجوات التي تختبئ خلف الشعارات الرسمية. الفهم يحتاج إلى عقل هادئ، غير مشوّه بالجروح أو الأحقاد، قادر على التمييز بين ما يُقال وما يُخفي، بين المظاهر والجوهر. التاريخ الحقيقي لا يعيش على المنصات، ولا في بيانات الأحزاب، بل في الزوايا المنسية، في الحكايات الصغيرة، في صمت الأدب والفن.

 

صدام حسين لم يكن لغزاً منعزلاً، بل نصاً جماعياً كتبناه جميعاً بوعي أو بلا وعي، في سلوكياتنا اليومية، في مخاوفنا، في صمتنا عن الحقائق. وتظاهرنا بعدم قراءة هذا النص جعلنا نجهل الحقيقة: لم نعرفه، وفي المقابل لم نعرف أنفسنا.

 

وللأسف… نحن لا نزال نحمل تلك الصفحات بين أيدينا، ونخشى أن نقرأها.

 

صدام انتهى، لكننا لم ننتهِ بعد.

المشـاهدات 29   تاريخ الإضافـة 20/12/2025   رقم المحتوى 69093
أضف تقييـم