دول قذرة أم سياسات قذرة؟ ترامب في قفص الاتهام لا المهاجرون
حين يهرب الناس من حرائق أشعلها الغرب ثم يتهمون بأنهم دخان العالم![]() |
| دول قذرة أم سياسات قذرة؟ ترامب في قفص الاتهام لا المهاجرون حين يهرب الناس من حرائق أشعلها الغرب ثم يتهمون بأنهم دخان العالم |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب د. سلام قاسم |
| النـص :
مرة أخرى، قرر دونالد ترامب أن يجرب السياسة على طريقته المعتادة، يفتح فمه كما لو أنه يغرد قبل الفجر، فتخرج من بين كلماته ما يكفي من العنصرية لملء قاعة انتخابية، ثم يبتسم للجمهور وكأن شيئاً لم يكن. في حملاته وتصريحاته يعيد تدوير عباراته عن «الدول القذرة»، ويكيل الإهانات لبلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويتساءل بإعجابه المعتاد، لماذا تستقبل الولايات المتحدة مهاجرين من تلك البلدان بدلاً من دول مثل السويد والنرويج والدنمارك؟ فيختصر العالم إلى خريطة ألوان، بشر أشقر من «بلدان لطيفة»، وبشر داكن من «بلدان قذرة»، وكأن الإنسانية درجات في بهو فندق فاخر، بعض غرفه تطل على البحر وأخرى على مكب النفايات.في قاموس ترامب، المشكلة ليست في الحروب التي تشعل، ولا في الانقلابات التي تُموَّل، ولا في الشركات العابرة للقارات التي تلتهم ثروات البلدان الهشة، بل في اللاجئ الذي وصل إلى بوابة المطار يحمل حقيبة مهترئة وجواز سفر مثقوب الأختام. هكذا يقدم للجمهور وهم مريح، أن سبب البطالة والأزمات والجريمة هو ذاك الغريب القادم من بعيد، لا النظام الاقتصادي الذي يكدس الثروة في الأعلى ويترك الفتات في الأسفل، ولا السياسة الخارجية التي تعيش على مبدأ «أشعل النار هناك لتستدفئ هنا».لكن يبقى السؤال قائم، من الذي حوّل كثيراً من هذه البلدان إلى دول طاردة لأبنائها وكفاءاتها؟ الهجرة من العراق وأفغانستان والصومال وهاييتي وليبيا وغيرها لم تكن يوماً رحلة سياحية، بل هروباً من جحيم تشكلت ملامحه عبر عقود. حروب وتدخلات عسكرية مباشرة؛ غزو هنا وقصف هناك وقواعد عسكرية ترسم حدود النفوذ بالمدافع لا بالخرائط. دعم طويل لأنظمة دكتاتورية وفاسدة، تلقت سلاحها وشرعيتها من عواصم غربية ثم تُركت، حين انتهت صلاحيتها، على كومة من الخراب. اقتصاد ريعي، وديون خانقة، وخصخصة متوحشة جعلت من الدولة سمساراً لبيع ما تبقى من مواردها. في النهاية، يغادر الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي والصحفي، لا لأنهم يكرهون أوطانهم، بل لأن الوطن أُفرغ عمداً من مقومات الحياة ثم قيل لهم، «تمسكوا بالصمود»!هنا يبدو خطاب ترامب في ذروة عريه، يطالب بمهاجرين «مفضلين» من السويد والنرويج والدنمارك. حسناً، لنطرح سؤالاً بسيطاً، ما الذي يدفع مواطناً من دولة رفاه اجتماعي حقيقي، فيها تعليم مجاني وصحة مجانية وبنى تحتية عاملة، إلى أن يهرب جماعياً نحو بلدٍ ما زال يعاني من أزمات تأمين صحي وفوارق طبقية حادة وعنف مسلح مزمن؟ مهاجر الشمال، حين يذهب إلى الولايات المتحدة، يفعل ذلك غالباً بدافع مغامرة أو فرصة إضافية، لا فراراً من قنبلة سقطت على سقف بيته. أما مهاجر الجنوب، فهو غالباً يركب البحر لأن اليابسة أُحرقت تحت قدميه. المفارقة المضحكة المبكية أن الولايات المتحدة ذاتها قامت تاريخياً على أكتاف مهاجرين كانوا هم أنفسهم «غير مرغوبٍ فيهم» في أوروبا، إيرلنديون وإيطاليون ويهود وشرقيون وغيرهم، استُقبلوا أول الأمر بخطابات خوف وازدراء، ثم صار أحفادهم اليوم جزءاً من الحكاية الرسمية لـ«الحلم الأمريكي» الذي يتباهى به ترامب نفسه.حين يصف سياسي بلداً كاملاً بأنه «قذر»، فإن السؤال الأهم، ليس هل هذا البلد فقير أم غني؟ بل، من الذي شارك في صناعة فقره؟ الدولة التي تلقي نفايات حروبها في ساحات الآخرين، والشركات التي تنهب موارد العالم الثالث، والبنوك التي تغسل أموال الفساد، كلها شركاء في إنتاج ما يسمى اليوم «دولاً فاشلة» و«بيئات طاردة»، ثم تأتي لتقف أمام بوابة اللجوء كشرطي أخلاقي يصرخ في وجه الضحية، «عد إلى خرابك، فمكانك ليس هنا». القذارة الحقيقية ليست في لون التربة ولا في ارتباك البنى التحتية، بل في منطق الهيمنة الذي يعتبر الدم في الجنوب أقل كلفة من رصاصة في الشمال، وفي الخطاب الذي يحول الضحايا إلى متهمين.خلف كل مهاجر صومالي أو عراقي أو أفغاني أو هايتي حكاية فردية لا يراها ترامب في جملته المقتضبة، طبيب ترك عيادته بعد أن تحولت ساحة الحي إلى ساحة حرب، ومهندس أغلق ورشته لأن الميليشيا صارت شريكاً قسرياً في مشروعه، وأم حملت أطفالها في الليل وخرجت لأن بيتها لم يعد يمتلك سقفاً يحميهم من قذيفة قادمة. الخطاب الذي يختزل هؤلاء في صورة «مجرمين» أو «طفيليين» يتجاهل حقيقة أن الهجرة، في كثير من مساراتها، كانت وما زالت رافعة معرفية واقتصادية للدول المستقبِلة، وأن مشكلات الاندماج والأمن لا تُحل بالشتائم الجماعية، بل بسياسات عادلة متوازنة تحترم الإنسان أينما كان.من السهل أن نحمِّل كل شيء لشخص اسمه دونالد ترامب، نشتمه قليلاً ونرتاح ضميرياً، لكن الحقيقة أن الرجل ليس سوى ميكروفون صاخب لما يهمس به جزء من النخب والشارع في الغرب، خوف من «الآخر»، وحنين إلى تفوق عرقي قديم، وهروب من الاعتراف بالمسؤولية التاريخية عن خراب ساهموا في صنعه. وفي المقابل، من السذاجة أن نُخرِج أنفسنا، نحن أبناء هذه البلدان المنكوبة من المعادلة؛ فالاستبداد والفساد والطائفية ليست صناعة أمريكية خالصة، بل نتاج داخلي أيضاً. الهجرة مرآة تعكس قبح الداخل والخارج معاً، لا لطخة على وجه طرف واحد.الآن لنطرح هذا السؤال، أيهما أكثر قذارة أخلاقية، بلد فقير يحاول أن يعيش رغم الحروب والانهيارات، أم دولة قوية تفتخر علناً بأنها لا تريد «نوعاً معيناً من البشر» على أرضها؟ الفقر ليس جريمة، والجنوب العالمي ليس وصمة على جبين البشرية، بينما الخطاب الذي يجرم الضحية لأنه يهرب من النار هو في ذاته أكثر البقع سواداً على خارطة هذا الكوكب.ربما يكون أبلغ رد تهكمي على منطق ترامب أن نقول، لو طبق معيار «النظافة الأخلاقية» بصرامة، لأُغلقت مطارات كثيرة في وجه ساسة يوزعون على العالم دروس التحضر نهاراً، ثم يوقعون ليلاً صفقات السلاح والحصار التي تحول أوطان الآخرين إلى مقابر مفتوحة لا تتوقف عن إنجاب المهاجرين. عندها فقط سنعرف من الذي جاء من «دولة قذرة» فعلاً، ومن الذي يحمل على كتفيه أوساخ تاريخٍ لم يغسل بعد. |
| المشـاهدات 34 تاريخ الإضافـة 21/12/2025 رقم المحتوى 69118 |
أخبار مشـابهة جريدة الدستور ليوم الاحد 21/12/2025 للعدد 6359 |
![]() |
الأبيض لون العام 2026.. راقصة السحاب تفرض الهدوء على المجتمعات العالمية
|
![]() |
المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج يحتفي باليوم العالمي للغة العربية |
![]() |
ديوان جديد للشاعر عبد المنعم حمندي
|
![]() |
الماجدية..رواية بكر لكاتبها المخرج المسرحي كاظم ابو جويدة يفتح شفراتها ملتقى ميسان الثقافي |
توقيـت بغداد








