صناعة الطاغية
(الجزء الثالث)![]() |
| صناعة الطاغية (الجزء الثالث) |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب كتب رياض الفرطوسي |
| النـص : قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى في الحرب العراقية–الإيرانية، كانت رصاصة أخرى قد أُطلقت داخل النظام نفسه: رصاصة الخوف. الخوف من أن تنتقل عدوى الثورة الإسلامية في إيران إلى الداخل العراقي، وأن تتحول الشعارات الدينية والسياسية القادمة من طهران إلى شرخ في بنية السلطة، لا إلى تهديد عسكري مباشر على الحدود.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان حزب البعث العربي الاشتراكي يعيش حالة ارتباك حقيقية. سقوط نظام الشاه في إيران لم يكن حدثاً خارجياً عابراً، بل إنذاراً داخلياً. الحزب، الذي بنى شرعيته على القوة والتنظيم والانضباط، بدأ يخشى أن يرى صورته في مرآة جارٍ سقط فجأة، رغم أجهزته الأمنية وجيشه ونفوذه الإقليمي.
هذه المخاوف لم تكن همساً في الممرات فقط، بل نُقلت صراحة إلى صدام حسين من قيادات حزبية وإعلامية كانت تراقب الشارع، وترصد تصاعد نشاط الأحزاب الإسلامية، وعلى رأسها حزب الدعوة، إلى جانب الخطاب الإيراني المتصاعد بعد الثورة. كان القلق واضحاً: هل يمكن أن يتكرر السيناريو الإيراني في العراق؟
ردّ صدام حسين على هذه المخاوف لم يكن سياسياً بقدر ما كان أمنياً وعقائدياً. لم يتعامل معها بوصفها أزمة تحتاج إلى احتواء، بل كتهديد يجب القضاء عليه مبكراً. كان موقفه واضحاً: أي حزب، أو جماعة، أو فرد يتأثر بالثورة الإسلامية في إيران أو يحاول نقل أفكارها إلى الداخل العراقي، سيُواجه بالقمع الكامل دون نقاش أو تساهل. الرسالة التي أراد إيصالها كانت حاسمة: لا مجال للاختلاف، ولا مساحة لأي تأثير خارجي يمكن أن يزعزع بنية السلطة.
في هذا السياق، لم يكن صدام حسين متخوّفاً من المد الديني بحد ذاته، بقدر ما كان يرى في المشهد الإقليمي فرصة نادرة. إيران خارجة من ثورة، منهكة سياسياً، ومرفوضة دولياً بعد أزمة الرهائن. دول الخليج تشعر بالتهديد، والولايات المتحدة تبحث عن طرف يعيد التوازن. العراق وجد نفسه فجأة في موقع يسمح له بأن يظهر بمظهر “المدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية”.
هنا، بدأ التحول الكبير في وظيفة الإعلام. لم يعد دوره نقل الوقائع، بل إعادة تعريف الحرب قبل أن تبدأ. الحرب لم تُقدَّم كصراع مصالح أو حدود، بل كمعركة مصيرية بين العرب والفرس، بين الدولة والنار القادمة من الشرق. استخدمت مصطلحات قاسية، بعضها كان خاطئاً استراتيجياً، مثل توصيف الإيرانيين بـ“المجوس”، وهو توصيف لم ينجح في تعبئة الداخل بقدر ما أثار حساسية دينية ومجتمعية داخل العراق نفسه.
ومع ذلك، استمر الخطاب، لأن الهدف لم يكن الدقة بقدر ما كان التعبئة. ففي زمن الحرب، لا يُطلب من الناس أن يفهموا الأسباب، بل أن يؤمنوا بالرواية. والرواية، كي تعيش، كانت تحتاج إلى غلاف أقدم من السياسة، وأعمق من الجغرافيا.
في تلك اللحظة، قرر صدام حسين أن يمنح الحرب لباساً دينياً–تاريخياً، فأطلق عليها اسم “القادسية الثانية”. لم يكن الاسم بريئاً ولا عفوياً، بل محاولة واعية لاستدعاء التاريخ إلى ساحة المعركة، وتحويل الصراع من حرب دولة إلى ملحمة وجود. لم يعد الجنود يقاتلون من أجل حدود مرسومة على الخرائط، بل من أجل راية قيل لهم إنها مرفوعة منذ قرون، ومن أجل “مجد” أُعيد تدويره ليبرر الموت.
الإعلام التقط الإشارة سريعاً، وبدأ يسوّق للحكاية الجديدة. الأناشيد العسكرية لم تكن مجرد أصوات حماسية، بل أدوات تعبئة نفسية كثيفة الرمزية. “هيه يا سعد… يا جدنا… يا الرايتك من عدنه”، أغنيات بسيطة في ظاهرها، لكنها محمّلة بإيحاءات الدم والنسب والميراث. الجد هنا لم يكن شخصاً، بل تاريخاً مستعاراً، والراية لم تكن قماشاً، بل إذناً بالقتل. هكذا، مهّدت الموسيقى الطريق للرصاص، وجعلت الذهاب إلى الجبهة يبدو أقرب إلى طقس بطولي منه إلى مسيرة موت.
ولم يتوقف التسويق عند حدود العراق. هيمنة صدام الإعلامية تمددت إلى خارج الجغرافيا، إلى باريس ولندن، حيث كانت مجلات عربية تُدار بأقلام لبنانية وسعودية، جرى شراؤها بالكامل، لا بالاقتناع، بل بالمال والنفوذ. هناك، في عواصم الحرية، رُسمت صورة “قائد الأمة العربية”، و“حارس البوابة الشرقية”، و“رجل المرحلة”. تضخمت الألقاب، وتكاثرت الأسماء، حتى صار للطاغية أكثر من تسعة وتسعين اسماً، كل اسم منها مرآة إضافية للتمجيد، لا للحقيقة.
لكن خلف هذه الأسطورة المصنوعة بعناية، كانت هناك فاتورة ثقيلة. الحرب العراقية–الإيرانية لم تكن نصراً لأحد، بل خسارة مزدوجة لشعبين جرى استنزافهما باسم الشعارات. العراق، الذي كان ديناره يعادل ثلاثة دولارات، خرج من الحرب مفلساً، منهكاً، حتى صار الدولار الواحد يساوي ألفاً وخمسمئة دينار. الخزينة أُفرغت، البيوت جاعت، والناس تعلّموا كيف يعيشون على الخوف بدل الأمل.
ومن خلال هذا الجوع، وهذا الاستنزاف الطويل، استطاع صدام حسين أن يُحكم قبضته أكثر. الحرب كانت وسيلة للهيمنة، والتجويع سياسة، والخوف نظام حكم. زُجّ الشباب في جبهات طاحنة، لا خيار لهم سوى القتال أو الاتهام بالخيانة. وحتى الفن، الذي يُفترض أن يكون مساحة للروح، جرى تجنيده. كثير من كتّاب الأغاني والفنانين والمطربين لم يكونوا مؤمنين لا بفكر البعث ولا بصدام حسين، لكن الإيمان لم يكن شرطاً للبقاء. كان يكفي أن تكتب، أن تغني، أن “تردح” للقادسية من خلال المسرح العسكري، كي لا تُرسل إلى الخنادق. الفن لم يعد تعبيراً، بل وثيقة نجاة.
في إيران، تجسدت القداسة في شخصية الإمام الخميني، رجل الدين الذي اكتسب مكانته من بساطته، ومن خطابه الديني، ومن شعور قطاعات واسعة من الشعب بأنه يمثلهم ويعبّر عن آلامهم وتطلعاتهم. أما في العراق، فقد جرى بناء قدسية من نوع آخر؛ قدسية مفروضة لا نابعة، صُنعت لرجل السلطة، للدكتاتور، عبر الإعلام، والحرب، والخوف، حتى تحوّل إلى رمز لا يُسأل، ولا يُناقش، ولا يُنتقد. هنا لم تكن القداسة نتيجة إيمان، بل نتاج سلطة أرادت أن تُرى مقدسة كي لا تُمس.
الحرب، في بدايتها، لم تكن مخططة لتكون طويلة. القيادة العراقية اعتقدت أن ضربة سريعة ستفرض واقعاً سياسياً جديداً، ثم يُفتح باب التفاوض. لكن ما لم يكن في الحسبان هو حجم الالتفاف الشعبي داخل إيران، واتساع الجغرافيا، واستعداد النظام الجديد لخوض حرب طويلة مهما كانت الكلفة.
وعندما أدرك صدام حسين أن الحرب لن تنتهي سريعاً، كانت ماكينة التعبئة قد دخلت مرحلة اللاعودة. الحرب نفسها تحولت إلى مشروع لإعادة إنتاج السلطة، وتعزيز صورة الطاغية، وتحويله من رئيس إلى رمز لا يجوز المساس به. كلما طال أمد الحرب، ترسخت فكرة أن بقاء النظام مرتبط ببقائه، وأن أي تشكيك به هو تشكيك بـ“المعركة المصيرية”.
هكذا، لم تُصنع صورة الطاغية عبر الإعلام وحده، بل عبر الحرب، والتجويع، والخوف، وتكريس فكرة العدو الدائم. الدولة لم تعد تُدار بالعقل السياسي، بل تُعبَّأ بالعاطفة والخطر المستمر. والواقع لم يعد كما هو، بل كما أراد الطاغية أن يُرى ويُصدَّق. يتبع… |
| المشـاهدات 54 تاريخ الإضافـة 23/12/2025 رقم المحتوى 69267 |
أخبار مشـابهة![]() |
صناعة الطاغية
( الجزء الثاني ) |
![]() |
صناعة الطاغية
( الجزء الاول ) |
![]() |
الصناعة تعقد الاجتماع الاول للجنة منح التراخيص لاستخدام العلامات التجارية
التخطيط تحدد مسارين لحماية المستهلك ومنع دخول السلع غير المطابقة |
![]() |
النعمانية يتغلب الصناعة في دوري الطائرة الممتاز
|
![]() |
اكد ان السنوات المقبلة ستشهد تقدماً ملحوظاً في توطين الصناعة الدوائية
وزير الصحة يوجه بإلغاء قرار نقل 5 الآف موظف إلى وزارة العدل |
توقيـت بغداد









