الإثنين 2025/12/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 3.95 مئويـة
نيوز بار
الإعدام مشياً على الأقدام..قراءة خارجة عن المألوف في تجربة رحيم خلف اللامي
الإعدام مشياً على الأقدام..قراءة خارجة عن المألوف في تجربة رحيم خلف اللامي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب سالم رحيم عبدالحسن
النـص :

 

 

 

أصدر الشاعر رحيم خلف اللامي ديوانه الموسوم بـ «الإعدام مشيًا على الأقدام»، وهو عنوان يصدم المتلقي منذ اللحظة الأولى؛ عنوان استفزازي يزرع سؤالًا حادًا في الذهن: هل ثمة إعدام يُنفَّذ سيرًا على الأقدام؟  يبدو السؤال غرائبيًا للوهلة الأولى، لكنه يشكّل المدخل الذي يريده الشاعر لفتح أفق تأويلي، حيث لا يبحث عن إجابة واقعية أو قانونية، بل يدفع القارئ إلى مغادرة منطقة الفهم المباشر والدخول في مساحة الإحساس الشعري.  ولعل ما يميز هذه القراءة هو تركيزها على العنوان بوصفه المفتاح الأول لفهم محتوى الديوان، انطلاقًا من المقولة الشائعة: «يُعرَف الكتاب من عنوانه». فالعنوان هنا لا يكتفي بوظيفة تعريفية، بل ينهض بدور تأويلي، يختزل التجربة، ويمهّد لمساراتها الدلالية، ويقود القارئ إلى أفق القراءة قبل الدخول في جسد النص الشعري.  هذا النوع من العناوين الاستفزازية لا يطلب من القارئ فهم القصيدة فحسب، بل يحفّزه على إطلاق خياله لإعادة تشكيلها من الداخل. فالإحساس يسبق المعنى، وهو البوابة الأساسية لإدراك النص. ومن خلال هذا الإحساس يمكن تخيّل كيف يموت الإنسان بعقوبة السير، ليس كفعل مادي، بل كاستمرار قسري للحياة نحو النهاية المحتومة؛ الموت. وهكذا يتحول السير إلى استعارة كبرى عن العيش تحت وطأة الاستنزاف، حيث يصبح الاستمرار ذاته شكلًا من أشكال العقوبة، والموت نتيجة مؤجَّلة لا فعلًا مفاجئًا.  فالبعد الفلسفي يشكل صفة ملاصقة لتجربة رحيم خلف اللامي في جميع تجلياته الأدبية، فهو غريب في كل تفاصيله، يعتاد العزلة عن الأضواء الإعلامية، ويتمرد على عالم القبح منذ نعومة أظافره بعقلية صعبة وذهنية متعمقة. رحيم، الذي يعشق لعبة الشطرنج، يمارس تنوعًا شعريًا بين الفصيح والعامي، حيث يلجأ أحيانًا إلى العامية لكسر القيود اللغوية وخلق مساحة أوسع للإحساس، تتلامس فيها الروح أكثر مع الواقع، مستخدمًا مفردات تحمل دلالات متجذرة في وجدانه وحياته اليومية، وتعكس تفاصيل تجربته الإنسانية العميقة.  ولا يمكن فصل تجربة رحيم الشعورية عن السياق التاريخي والنفسي الذي عاشه، فقد تربّى في عراق حقبة نظام البعث، حيث تركت الحروب وثقافة الإعدام أثرًا دائمًا في الوجدان والذاكرة. تلك الجراح لم تفارقه، بل ما زالت كامنة في دهاليز عقله الباطن، تظهر على هيئة ومضات شعرية غير واعية، تعبّر عن احتجاج صامت، ورفض مؤجَّل لحكم تعسفي لم تنتهِ آثاره بسقوط النظام، بل ما زالت أذنابه تتحرك بأشكال مختلفة.  وقد يستغرب البعض من سريالية العنوان، ويتساءل عن إمكانية وجود حكم بالإعدام سيرًا على الأقدام. لكن الذاكرة الثقافية العربية تقدّم ما يوازي هذا التصور، كما في ما يُعرف شعبيًا بحكم «الكعب داير» في الثقافة القانونية المصرية، حيث يُلزم المتهم بالسير لمسافات طويلة برفقة عنصر أمني، في عملية إنهاك وكسر للإرادة، حتى يتحول السير ذاته إلى أداة عقاب، وربما إلى موت بطيء.  بهذا المعنى، لا يكتب رحيم خلف اللامي عن إعدام متخيَّل، بل عن مصير إنساني عاشه العراقي طويلًا، حيث لم يكن الموت حدثًا مفاجئًا، بل طريقًا ممتدًا يُجبر الإنسان على قطعه وهو حيّ. إن «الإعدام مشيًا على الأقدام» ليس عنوان ديوان فحسب، بل توصيفًا لوجود كامل، لجيلٍ لم يُعدم دفعة واحدة، بل حُكم عليه أن يُعدم… وهو ما يزال يمشي.

المشـاهدات 44   تاريخ الإضافـة 29/12/2025   رقم المحتوى 69393
أضف تقييـم