| النـص : تشهد اللغة العربية اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها؛ مرحلة تتقاطع فيها المنجزات التقنية مع التحولات اللغوية والاجتماعية، وتختلط فيها مشاعر الأمل بالخوف. فمع صعود الذكاء الاصطناعي إلى صدارة المشهد العالمي، تبرز أسئلة جوهرية حول مكانة العربية في هذا العصر الرقمي المتسارع: هل يقودها الذكاء الاصطناعي إلى نهضة لغوية غير مسبوقة، أم يدفعها إلى تراجع أعمق بسبب هيمنة اللغات العالمية الكبرى؟ وهل يملك العرب القدرة على توجيه هذا التحول لصالح لغتهم، أم أن الموجة التقنية ستجرف معها ما تبقى من حضور العربية في مجالات المعرفة والإبداع؟منذ عقود طويلة، كان الحاضر اللغوي العربي يتشكّل حول عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية، أما اليوم فقد دخل عامل جديد كليًا، لا يشبه ما سبقه: التكنولوجيا الذكية. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أدوات تقنية، بل منظومات قادرة على الفهم والتحليل وتوليد النصوص وإعادة إنتاج المعرفة، وهي أنشطة كانت حكرًا على الإنسان. وبقدر ما يشكل هذا التحول فرصة، فهو يحمل في داخله مخاوف عميقة، لأن اللغة التي لا تُوظَّف في هذه التقنيات الحديثة قد تُقصى من المستقبل المعرفي، وتجد نفسها خارج الزمن.العربية، بما تملكه من ثراء لغوي وصرفي ودلالي، تمثل تحديًا كبيرًا أمام الباحثين في مجالات "معالجة اللغة الطبيعية". فبنيتها الاشتقاقية المعقَّدة، وتنوّع لهجاتها، وتعدّد مستوياتها بين الفصحى والعامية، تجعل فهمها آليًا أصعب بكثير من اللغات الأوروبية التي تعتمد بنية تركيبية أكثر بساطة. لكن هذه الصعوبة ليست عيبًا، بل إحدى نقاط القوة التي تجعل العربية قادرة على التعبير بدقة ومرونة عن مفاهيم عميقة. ورغم ذلك، أدّى التعقيد اللغوي إلى تأخر دخول العربية في ميدان الذكاء الاصطناعي مقارنة بلغات أخرى.ولسنوات طويلة، كانت التطبيقات العربية في مجالات الذكاء الاصطناعي محدودة، وتعتمد على جهود فردية أو مبادرات صغيرة الحجم. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد بشكل ملحوظ. فقد بدأت الشركات التقنية العالمية، بمختلف توجهاتها، في تضمين العربية ضمن اللغات الأساسية التي تبني عليها نماذج لغوية كبيرة، كما ظهرت مبادرات عربية رائدة في تطوير أدوات رقمية تخدم الكتابة والبحث والتعليم والإنتاج الإعلامي. وهذا يُعد مؤشرًا على أن العربية بدأت تشق طريقها في هذا الفضاء الواسع.ومع ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن كثيرًا من أدوات الذكاء الاصطناعي ما زالت تفهم العربية فهمًا ناقصًا، وتتعامل معها كنسخة مبسطة أو محلية، وليس كلغة لها تاريخ يمتد لقرون وقدرة على الابتكار الدلالي. فالتكنولوجيا لا تُصنع وحدها، بل تُدرَّب على بيانات، وهذه البيانات هي التي تحدد مدى فهم الآلة للغة. وفي الوقت الراهن ما تزال المحتويات العربية الرقمية ضعيفة مقارنة باللغات الأخرى، سواء من حيث الكمية أو الجودة. فمعظم المعرفة العربية لا تزال حبيسة الكتب الورقية، أو موزعة في مواقع غير منظمة، أو غير متاحة بشكل مجاني للباحثين والآلات. وهذا الخلل ينعكس مباشرة على أداء نماذج الذكاء الاصطناعي.إلا أن الصورة ليست قاتمة، بل تحمل في طياتها فرصًا كبيرة للنهضة. فالذكاء الاصطناعي قادر على أن يكون حليفًا قويًا للغة العربية، إذا ما استُخدم بطريقة واعية ومخطط لها. فمن خلال النماذج اللغوية يمكن إحياء التراث العربي، وتحويل ملايين الصفحات من المخطوطات والكتب إلى نصوص قابلة للبحث والتحليل، مما يعيد وصل ما انقطع بين الأجيال وثروتها التراثية. ومن خلال البرمجيات التعليمية الذكية يمكن تحسين مستوى تعليم العربية وتسهيل تعلمها لغير الناطقين بها، وهو مجال قادر على فتح أبواب واسعة أمام انتشار العربية عالميًا.كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم الصناعات الإبداعية العربية، من كتابة السيناريو إلى الترجمة إلى المحتوى المرئي. فالأدوات الحديثة باتت قادرة على مساعدة الكاتب والصحفي والمترجم والشاعر دون أن تحل محلهم، مما يخلق بيئة إنتاجية جديدة تساعد على تجديد اللغة بدل تهميشها. والأهم من ذلك أن الذكاء الاصطناعي قادر على جعل الفصحى أكثر حضورًا في الإعلام الرقمي، لأن النصوص أصبحت أسهل إنتاجًا وأسرع تداولًا، مما قد يعيد للعربية مكانتها كلغة ذات حضور يومي.ورغم كل هذه الفرص، ما يزال الخوف من تهميش العربية قائمًا. فالعصر الرقمي يعتمد على السرعة، ومعه تنتشر اللغات الهجينة والاختصارات التي يستسهلها المستخدمون. وقد يؤدي ذلك إلى دخول مفردات أعجمية مشوهة تحل محل مفردات عربية راسخة، ليس بحكم التطور الطبيعي للغة، بل بحكم نفوذ التكنولوجيا والثقافة التي تحملها. وهذا الخطر حقيقي، ويزداد مع استخدام الأجيال الجديدة للغات مختلطة في الرسائل اليومية والسوشيال ميديا، مما قد يصنع فجوة لغوية بين الأجيال، ويضعف الحس اللغوي العام.لكن الخوف الأكبر هو ألا تكون للعرب مساهمة فعلية في صناعة الذكاء الاصطناعي ذاته. فاللغة ليست مجرد وعاء للتواصل، بل إطار معرفي يحدد كيفية بناء الأفكار وإنتاج المفاهيم. وإذا تولّت شركات غير عربية مهمة تشكيل النموذج اللغوي العربي في الذكاء الاصطناعي، فإن ذلك قد يؤدي إلى إعادة تشكيل العربية وفق مقاييس غير عربية، أو تجاهل بعض خصائصها الجوهرية، أو فرض أساليب تعبيرية غير أصيلة. وهذا ما يجعل التعاون بين اللغويين والمبرمجين والمختصين ضرورة لا يمكن تأجيلها.ولعل أبرز ما تحتاجه العربية اليوم في هذا السياق هو إرادة مؤسساتية حقيقية، تتجسد في مراكز بحث لغوي وتقني، وفي سياسات تعليمية تشجع طلاب المدارس والجامعات على التعامل مع العربية بوصفها لغة علم وتكنولوجيا لا لغة تراث فقط. كما تحتاج إلى استثمارات في المحتوى الرقمي، وإلى مشاريع كبرى لبناء أرشيف لغوي عربي مفتوح، وإلى توفير البيانات الضخمة التي يمكن للنماذج اللغوية أن تتعلم منها. فالتكنولوجيا اليوم لا تُبنى بالعبقرية وحدها، بل بالبيانات، والبيانات العربية ما تزال دون المستوى المطلوب.وبالرغم من التحديات، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يمثل «فرصة تاريخية» للعربية، ربما لم تُتح لها منذ قرون. فالتقنيات الحديثة تتيح للعربية أن تصبح لغة عالمية من جديد، لأنها لأول مرة ليست بحاجة إلى إمبراطوريات سياسية أو اقتصادية حتى تنتشر، بل إلى مشاريع تقنية وإبداعية واعية. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في توليد مفردات عربية جديدة تناسب العصر، وفي تبسيط قواعد النحو، وفي تدريب الأجيال على الكتابة السليمة، وفي دعم الفصحى عبر بطاقات الصوت والكلام الآلي. وهذا كله يجعل العربية جزءًا من المستقبل التقني لا مجرد ضيف عليه.ومع ذلك، لا يمكن الوثوق بأن المستقبل سيأتي لصالح العربية دون جهد. فاللغة التي لا يدافع عنها أهلها تذبل. واللغة التي لا تنتج معرفة تهمش. واللغة التي لا تدخل عالم التكنولوجيا تفقد موقعها. وإذا كان الخوف من تراجع العربية واقعيًا، فإن الأمل في نهضتها واقعي أيضًا، لأن اللغة التي صمدت آلاف السنين، وواجهت تحولات أكبر من ثورة الذكاء الاصطناعي، قادرة على أن تجد لنفسها مكانًا في عالم لا يعترف إلا بالأقوى والأقدر على التطور.إن مكانة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي تقوم اليوم على مفترقين: مفترق يفتح أبوابًا واسعة للنهضة والابتكار، ومفترق يحمل مخاوف حقيقية من التراجع والذوبان. وما سيحدد الاتجاه ليس طبيعة اللغة، بل إرادة أهلها. فإذا امتلك العرب القدرة على الاستثمار في التكنولوجيا، والتعليم، والبحث، والمحتوى، فإن العربية ستدخل المستقبل بقوة. أما إذا بقوا مستهلكين للتقنية لا صانعين لها، فإن العربية ستجد نفسها في موقع التبعية. وفي كلتا الحالتين يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيكون الذكاء الاصطناعي نقطة التحول التي تستعيد فيها العربية مكانتها العالمية، أم سيكون اللحظة التي تتراجع فيها إلى الهامش؟ إن الإجابة ليست في يد الآلة، بل في يد الإنسان العربي نفسه.
|