الخميس 2024/4/25 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
تنويعات الفضاء الشعري في مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى)
تنويعات الفضاء الشعري في مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

يسعى الشاعر (مهدي القريشي) من خلال مجموعته الشعرية الموسومة بـ(أخطاء تروّضها الموسيقى) الصادرة عن (اتحاد الأدباء في العراق- 2022) إلى خلق عوالم وفضاءات شعرية تنطوي على انتباهات وتساؤلات وتجلّيات في المكان والمرأة والحياة والحرب وتجسيد الهموم الوجودية واليومية، وبصياغة ترتكز على استثمار اللّغة والصورة والإيحاء وتوثيق لحظات يتوّهج فيها المعنى، يقدّم الشاعر هذه التنويعات بنسق تعبيري يميل إلى الاختزال ويبتعد عن الوصف الفائض ويبرع في التعامل مع المفردة ممّا يخلق وينتج نوعًا من الهواجس التي تحرّض المتلقي على تتبّع مسار الإيحاء في كل نصّ.

ولعلّ هذه البراعة في التعامل مع اللّغة والصورة والإيحاء جعله يميل إلى الاختزال ليس في تفاصيل النص ويكثفها بل نجد هذا الميل في اختيار عنوانات النصوص التي يعبّر عنها أحياناً بلفظة أو مفردة موحية واحدة مثل: (هذيان، غيوم، صورة، شهداء، قداس، مواطن، كواغد، وصيّة، محطات، خارطة، خيبة، المثال، نداء، أنا، هو، نحن...) وغيرها من العناوين المختزلة.

يحاول الشاعر في نصوصه أن يعيد صياغة السؤال الشعري وهو يقدّم رؤاه ليدحض خراب الواقع عبر التحريض والتأمّل، ولا يقدّم الرثاء بصيغة البكاء والحزن بل هو عنوان لديمومة التوهج فالغياب عنده حضور وفق نظرة تعيد تشكيل لحظة شعريّة متّقدة عبر الالتقاط والاستئناس بالمعنى المحلّق، ولا يميل إلى وضع خواتيم الأشياء والصور بل يجدّد (طوبوغرافيا) الموجودات والأشخاص والمدن، وسعي الإنسان وكفاحه من أجل أن يبقى المعنى هو الذي يقود النصوص إلى الجدوى والتوّقد واستئناف السير من دون توقّف، فنصوص مهدي القريشي تؤسس لها منطقاً ورؤى تتمركز حول إيجاد لحظة تتشاكل مع جدل الحياة وجدل الثنائيات وجدل البقاء على الرغم من كلّ الرماد والخراب والإنكسار، ووفق هذا الاشتغال يمكن القول إنّ شكل التناول الشعري في نصوص يستند إلى (ميكانزمات) لخلق صورة تتحدّى التشظّي والذبول، إنّه يبحث دوماً عن نضارة عبر النظر إلى العالم المتشابك والمأزوم وانطلاقاً مما يمكن أن تقدمّه اللغة والإحساس الاستثنائي ووعي الصيرورة لخلق عالم متدفّق لا توقفه الأحزان والهذيان والغيوم وقبح الحروب والغياب وصور الأسى والموت، إنه عالم يتدفق باتجاه شعرية المعنى وليس رثاء العالم بصيغة الإنكسار.

ولذا نجد تنويعاته تسعى دوماً إلى إعادة اكتشاف لحظة قد تبدو منزوعة الأمل، ولكن النظر إليها بوساطة هذا الاكتشاف يعيد إليها التدفق عبر البحث عن المعنى بعيداً عن النظرة العابرة، فالنصوص تؤسس بهذه التنويعات لقصيدة التأمّل وليس قصدية التوثيق والتمثّل مما يجعل النصوص ترتكز على عمق دلالي وإشارات تحيل إلى الصورة البديلة والمعنى الآخر، ففي نص (شجرة الكرادة) نجد غنائية الصورة على الرغم من الأسى الذي تمخّض عن الحدث الإنكساري:

ليس من الحكمة /                   أن تصطاد ضحكته المتكئة

على جناح سوسنة.. /     أو تروّض وصاياه المرتبكة

كثمرة تنتظر القطاف  / أو تلبسه قميصاً جنائزياً

سيتقيؤكم/ الواحد تلو الآخر/فشهيد الكرّادة ما زال أنيقاً... (المجموعة: 7).

ففي النص انفتاح على هذا المعنى الذي يتجاوز لحظة الحدث وتداعياته باتّجاه صورة تبعث أو تحيل إلى تدّفق آخر، ونلاحظ أن رثاء الحدث والمكان والضحايا لم يتخذ من الأسى موضوعاً بل استعاض عنه بالبحث عن زاوية ورصد لفكرة أخرى ولذا حفل النص بإيحاءات مضادّة للحزن والأسى: (جناح سوسنة، القطاف، ما زال أنيقاً) ومن يعيد قراءة النص بأكمله سيكتشف مفردات وايحاءات تتناغم مع هذه القصدية التعبيرية.

ويبدو الشاعر منشغلاً بهموم الوطن والإنسان والرؤى الوجوديّة أكثر من استغراقه في الهموم الذاتية أو الأغراض التي تعكس اهتماماً عاديّاً، إنّه يسعى لالتقاط المعاني العميقة والدلالات لتجسيد الهمّ الإنساني والوطني والوجودي، ويمثّل نص (هطول يلوّن الأرض) أنموذجاً لهذا التوّجه حين يكرّس النص لتناول فضاء (الثورة والتظاهر) المتجسّد في احداث تشرين، والنص لا يسعى إلى توثيق الأمكنة والأحداث بل ينطلق في فضاء يحصي به جدل الخسارات التي تتقزّم إزاء المعنى المحلّق لتلك الوثبة وسعى أيضاً إلى التقاط لحظات متوّهجة بعيداً عن التوثيق والإشارة العابرة، وهو يعمّق من دلالة المكان الذي اكتسى برمزيّة وطاقة فيها كثير من سيميائية المعنى الدال والموحي:

"المطعم منقرض في اشعال شموع تحرث حقول العاشقين

امتهن رصد غابة الغزلان تتعرّق كلّما لامسها الضرّ من رعونة يقينه الأسود...

والألسن ترقص في أفواه معطوبة ومنزلقة نحو هاويتها

يلقّنون هراواتهم شخير عقائد  /   كلّما تنفّس الفجر رذاذ غاياتنا

الهطول يلوّن الأرض  / والصعود فخاخ أنبياء" (المجموعة: 10- 11).

ونجد تمثّلات هذا الاشتغال في كلّ تفاصيل هذا النص الذي لم يتمركز حول تسجيل مشاهد ولحظات وصور استثنائية وإنما يرصد لحظة تدفّق ينتصر فيها المعنى المراد تجسيده ويقدّم الوجه المتّقد من الثنائيات المتضادة، ولو عدنا إلى تأمل سيميائية عنوان المجموعة نجده يرتكز على تناول الثنائية (الأخطاء / الموسيقى) ويمثل ذلك امتداداً لهذا النسق في معظم نصوص المجموعة التي اشتغلت على ثنائية تماثليّة هي (الحياة/ الموت) الحياة بكل ما تعنيه المفردة في النضارة والديمومة، والموت بكل ما يعنيه من الخواء والخراب والغياب.

ونلحظ في نص (جمجمة مثقوبة) تكريساً صورياً لرصد لحظة مأزومة أخرى لكن الشاعر يتوغل في لعبة الإنزياح على مستوى اللغة والمعنى وتقديم صورة تحرّض على اكتشاف المعنى الآخر، ويقدّم مشهداً وجودياً فيه كثير من التأمّل والرصد:

على مرمى ريشة من خيانات عقلي المهذّب / الرب يرمّم فوضى العالم

ويدوزنه على استغاثة / جمجمة مثقوبة  /   لذلك لم اندهش

حين رأيت الخطأ والصواب /  يفضان بكارة الصدفة

وقد اتفقتا على تبادل /  البراءة بالمكر/ والشعوذة بالإيمان...(المجموعة: 13).

إنّ هذا الأنموذج يتوغّل أيضًا في استدعاء المعنى المترشّح من جدل وتناظر الثنائيات (الخطأ/ الصواب) (البراءة/ المكر) (الشعوذة/ الإيمان) فهو منشغل

فهو منشغل في هذا الجدل الذي تتضافر الموجودات والأحداث والصور على تقاسمه بحثاً عن المعنى الذي يصنعه هذا التضاد. ونلحظ في النص معاني وصوراً ودلالات تتجاوز المعنى العادي باتّجاه استرسالات ذهنية ووجودية ولا يغادر توق الشاعر لتأسيس السؤال والبحث عن صورة تؤرخ لانبثاق لحظة شعرية تؤطّر النظرة إلى الوجود والصراع ومظاهر الإندثار. ويتعمق في فداحة السؤال: "طمأنيني أيتها القيلولة

هل ما زالت احلامك رهينة  /  الثكنات...؟". (المجموعة: 15).

تلك صورة فريدة للتناقض بين الحلم والقيلولة، والارتهان إلى الثكنات، هذه هي الصورة التي يتوق الشاعر إلى الإمساك بها لفرادتها من خلال الرؤية المغايرة والتأطير التأمّلي لكل صورة يبحث عنها ويجسّدها لتوكيد الدلالة المحلّقة والمحرّضة والعميقة.

الرؤية المغايرة عند القريشي تتجسّد في هذه التنويعات التي يقدّمها الشاعر في فضاءات هي أشبه بمنظور شاعري لالتقاط المعنى الخفي، فهو لا ينظر إلى المرأة بخواصّها التقليديّة وموروث الغزل بل يجسّدها على شكل فكرة أو مضمون متعال، ومن يتأمل نص (خداع امرأة) يكتشف انه ازاء ترتيلة تمزج الثنائيات المتضادّة، وتتخذ من المرأة رمزاً من رموز الوجود الجميل والمنتج لأكثر من معنى ودلالة ويتجاوز الشاعر في توصيفاته وصوره الشعرية المعاني التقليدية، والنظرة (البايولوجية) إلى رؤية تتوامض في أعالي صور موحية أخرى لا حدود لشعريتها وهو يتوغل في عالم (المرأة – الرمز) والكينونة:

"هذا وجه باهت!! /    كأن نثيث نعاس   /    سدّ مسامات

تمضمضت بعواء الليل  /  هذا خزين الأمس / تتقيأه كلما تلمّست تجاعيد

تؤهّلها للشيخوخة /  أو نزت شعرة سوداء في حدائق خريفي

تمّهلي أيتها المتكلّسة في عضد موجةٍ شرسة. /أنت أبدع من يجيد الكمائن

تمنحين صيدك تعويذة خلاص  /   ترتعشين في الظلّ

وتتوقد شهوتك حين تسمو الخطيئة..." (المجموعة: 21).

فالشاعر عبر صورة الطريفة دلالات أخرى لكائن يملك كل هذا السحر وفي كمائنه تكمن كينونة أخرى إنّه يمنح الخلاص، وليس الخلاص بمعناه النمطي التقليدي، فهو خلاص لا يأتي للإنسان بيسر، إنّه اكتواء وانغماس في جمر دافئ.

ونجد في نص (أنوثة الماء) مثل هذه الرؤية المغايرة والتطلّع الاستثنائي الذي يقرن الماء بالمرأة فكلاهما نبع لاستئناف الحياة ويقترب معنى النهر من معنى المرأة، إذ يتّخذ الشاعر من نهر (الغرّاف) مساحة للتوغل في المعاني المتدفقة التي تدلّ على بعضها وتوحي بمتواليات الجمال المتناسل بين المرأة والماء والخمرة والمطر، نص تكتشف فيه اشتغالاً شعرياً مميزاً عبر منظور يكشف عن دال الجمال، والتوّهج من خلال التمركز على مدلول لا تحنطه النظرة العابرة والسطحية نظرة الزوال والبريق، فبعض الكائنات يخلّدها التوق والاكتشاف المتجدّد والبحث عنها فيما تصنعه وتضيفه إلى لحظة وجود حقيقي:

موعدنا الغرّاف  /  الشاطئ يستدعي نسيانه

ويُقفِّز أرانبه البيض حول ذكورة الخمر أو أنوثة الخمرة

سابتكر معه امرأة ومطراً  /   وسمكاً مسقوفاً  /  لكنّ وقاحته

لا تكسرها إلاّ أنوثة الماء /  تصيّره خمرة /  إذ تمنحه ثوب الطهر.

حينئذ نرى المرأة أنثى... (المجموعة: 24)

ويتطلع إلى رؤية مغايرة في نص (شهداء) إذ يتوق إلى تقديم صورة تحرّض على الدلالة المحلّقة، والتناول غير التقليدي فالشاعر لا يخفي ولعه في استحضار الموجودات والصور والشواخص عبر استدلال رؤيوي ينقلهم من العادي إلى الاستثنائي ومن التكوّن إلى حركة دالّة لا تعترف بما اعتادت عليه الحدوس التي تحوّل الإحساس إلى منطقة ساكنة عبر تحنيط المسعى التداولي، وبذلك يحاول الشاعر ببعض منطلقات الرؤية المشاكسة أن يكسر أفق توقّع التلقّي، عبر إعادة صياغة المعنى بصور ودلالات جديدة وقراءة المعنى من زاوية أخرى، وهذا النص يثير كثيراً من التساؤلات والمعاني العميقة والدلالات المغايرة، إنّه يتوغل بعيداً في أفق التأمّل غير العادي يقول:

حيث الشوارع  /  تحتفل بعيد ميلادها  /  تبدّل ثوبها المجعّد كالسواد

بثوب لاذع للقهر!  /  تكون أكثر مرحاً / حيث تدعسها عجلات مرحة

تطالبنا بصورة الذكرى / ولا نجد سوى اشجار مضرّجة بالكافور

........

ثمة شهداء /  يحتشدون في تقاطعات الطرق

لكي ينظّموا الحياة... (المجموعة: 29).

ولم يغرقنا النص بالحزن والأسى والتمجيد بل ينظر الشاعر إلى الظاهرة برؤية جديدة تشاكس القارّ من الهواجس المعادة، وبذلك فإنه يضع الدلالة المتحركة في نصوصه.

هذه التنويعات والرؤية المغايرة أدّت إلى خلق نصوص تتجاوز التقليدي والمألوف والتوق إلى اكتشاف جديد لمعانٍ وصور وتشخيصات قد يمرّ عليها كثير  من دون أن يتطلّعوا إليها من نافذة التأمل الوجودي العميق الذي قد يتأطر بنوع المشاكسة الذهنية لاستحضار معنى متوّج وليس معنى متخثراً في الذهن الساكن، تلك لا تتوافر لشاعر إلاّ لمثل مهدي القريشي الذي تألق في مجموعته هذه ولم يكرّر نفسه إنما خلق عالماً شعرياً يليق بتاريخه وفنّه.

ووفق هذا الاشتغال نجد الشاعر يتناول شخصيّة رسخت في المخيال الشعبي وهي شخصيّة (شمهودة) التي ارتبطت بمعنى دال ومعروف لكنه يعيد تشكيل هذه الشخصيّة وفق اشتغال استثمر فيه الموروث الشعبي وبشكل يثير المتعة والسؤال ويرّحل المعنى إلى أفق دلالي جديد:

ماذا تتوقع شمهودة  /  حيث تعقد صلحاً مع الموت/غير أن تأتزر بالحزن

وتشيّع الجثامين    /  بصرخة محارب   /   التهمت وصاياه..

الحرب لا يسكنها   /  القدّيسيون   /  ولا صعاليك الشعر

ولا الأبالسة... ولا الرؤساء... (المجموعة: 32).

مجموعة (أخطاء تروّضها الموسيقى) للشاعر مهدي القريشي ارتحال في عوالم مكتظة بالبحث عن الدلالة الحافّة والصورة الطريفة وأحياناً الغرائبية والتأمل عبر تنويعات الفضاء الشعري، وتنويعات النسق التعبيري المغاير لالتقاط لحظة شعرية مغايرة.

المشـاهدات 279   تاريخ الإضافـة 06/06/2023   رقم المحتوى 22911
أضف تقييـم