السبت 2025/5/10 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
*قادما من نجد إلى العراق: "أبو معيشي"...أمير الأبوذية وسلطان المساجلات الشعرية
*قادما من نجد إلى العراق: "أبو معيشي"...أمير الأبوذية وسلطان المساجلات الشعرية
ديرة
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

لا يختلف اثنان بأن الشعر الشعبي هو وليد البيئة ولهجتها التي يولد فيها الشاعر ويعيش مفرداتها، فالشعر النبطي وليد الصحراء،والزجل المصري يختلف جذريا في القاهرة عن ماهو في الصعيد، وكذلك بالنسبة للبناني المتحضر عن ما يسطّره شعراء الضيعة أو الجبل،وهكذا الحال بالنسبة للعراق، فالسامع للشعر العامي الموصلي ويتمتع به لكونه يفهمه حين يقول"كم يردلي....كم يردلي...سمره قتلتيني...الخ القصيدة".

بالتأكيد سيلاقي صعوبة بالغة وهو يستمع الى شاعر الغربية العامي وهو يقول "راحت للجت وماجت"،وكذلك الحال حين يصغي الى الشعر العامي القادم من الجنوب او الفرات حين يقول"عكبك لادفك دمعي ولاخر"وهكذا الحال بالنسبة للهجة البغدادية ،فلكل بيئة لهجتها وطقوسها وشعائرها حتى بين ابناء البلد الواحد،ولكن هناك علامات فارقة في الشعر الشعبي العراقي تجاوزت حدود البيئة ،بل وحدت تلك الخرائط المختلفة بقصائدها ،ومثال ذلك الظاهرة النوابية لشاعرنا الكبير مظفر النواب،الذي تخلى قناعة عن لهجته البغدادية ،ليكتب امهات القصائد الشعبية بلهجة اهل الجنوب،وهو ليس الوحيد بالتأكيد في الانتقال من بيئة الولادة الى بيئة الارادة وتسيّد

الساحة فيها.

جوهرة الشعر السوداء

نقول ليس الوحيد لجزمنا التام بوجود العشرات منه في الولوج والابحار في هذا المعترك الابداعي الخطير،ومن هؤلاء الذي فضلنا ان يكون عنوان ما نكتبه اليوم ومحور وثيمة موضوعنا هو الجوهرة السوداء،وأمير الأبوذية وسلطان المساجلات في هذا الجنس الابداعي الشاعر أبو معيشي ،هذا البدوي الأسمر القادم من وسط "صحراء نجد"،ليحط الرحال في واحة الشعر والجمال مدينة سوق الشيوخ،فيسكن بساتينها مغردا كالبلابل،وينحت من طينها بيوتا للشعر اذهلت اهلها،وهم اهل الشعر ودواوينه التي لا تجارى في ناصرية الجنوب او الجنون،لافرق فكلاهما ينطقان بالحكمة ولايرسمان سوى الجمال،وتتعطر الدنيا بالفرح والسحر حين يبتسمان،هذا الوافد مع والده وشقيقه الأكبر من تلك الصحراء الى سوق الشيوخ ولد في نجد عام 1880م،جاء ليسكن وسط قوم كلامهم وطعامهم واعراسهم ومآتمهم وخصامهم ووئامهم يتسلطن فيه الشعر،فوجد ذلك الأسمر ضالته هناك وسرعان ماتملكه (عبقر)شيطان الشعر،ليهيم ببساتينها يتأمل مفردات الصحراء التي جاء منها فيطوّعها كما الطين على ضفاف الفرات،ليحصل على جواز المرور في مدينة الشعر والشعراء،وينال قناعة البستان واهله وطيوره بأنه الشاعر الذي لايجارى،فزغرد الفرات بمن فيه مرحبا بعريس الابوذية واميرها"جمعة معيشي داوود خليل الشمري"ليلقب بالجوهرة السوداء في عالم الشعر ويطلق عليه الجميع "ابو معيشي".

بستان {الزاير دولي}

شهدت المدينة برمتها نبوغ الرجل وفرادته بسبك أجمل الصور الشعرية ما استقطب الأصوات الأدبية المهمة وأجبرها على الإنصات لما يبوح به من نسج متمكن وباقتدار عال ينم عن ظاهرة شعرية لا يمكن الا الوقوف عندها طويلاً للتأمل وتذوق الشعر على أصوله الصحيحة، تزوج جمعة معيشي وهو لم يكمل عقده الثالث بعد أن تطايرت اشعاره بين الناس وأصبحوا يرددونها باعجاب كبير، فأنجب ولده البكر(معيشي) ومن ثم ولديه عبد الله وفارس. أصبح أبو معيشي من الشعراء المرموقين حتى أطلق عليه لقب الجوهرة السوداء، وكانت له مساجلات كثيرة مع أعلام الشعراء وآنذاك كما اصبح مقصداً للكثير منهم حيث كانوا يلتقونه في بستان المرحوم "الزاير دولي" صباحاً وفي مقهى صديقه الشاعر " الملا صگبان محيسن الازيرجاوي" حيث يجتمع الشعراء هناك قبل أن يعقدوا جلستهم في دكان كبير للمرحوم (الحاج عناد الحريب) بعد أن يعد المرحوم مكاناً خاصاً مفروشاً بالحصران والسجاد العربي قبل أن ينتقل مجلسهم ليلاً الى أحد منازل الشعراء كما ذكر الأستاذ فرقد الحسيني في كتابه الموسوم " أبو معيشي" وكانت تلك الجلسات عامرة بفاكهة الشعر والارتجالات المقتدرة في الأبوذية التي كان شاعرنا أحد قاماتها

السامقة.

شهادة كاتب شعره

ما يثير الدهشة والإعجاب هو أن شاعرنا المبدع لا يُحسن القراءة والكتابة ويعتمد في سبك أبوذياته على خزينه المعرفي الذي يضاهي العشرات من المتعلمين في ذلك الوقت حتى وصل" أبو معيشي" الى أنساق ابداعية لا تدانيها موهبة أخرى في رقي المفردة وصهرها ضمن نتاجه الشعري الهائل حيث كان شاعرنا يوثق مدوناته الشعرية عبر الإستعانة بأي شخص يجيد القراءة والكتابة كما يؤكد الأستاذ فرقد الحسيني في الكتاب

نفسه ويقول:

منذ نعومة أظفاري وأنا أجلس أمام الشاعر الكبير" أبو معيشي" كان ذلك نهاية الستينيات عندما كنت طالباً في الصف الخامس الإبتدائي ، عندها لم أكن أدرك ما هو الشعر لكني أدرك شيئاً واحداً هو اني ارتعش أمام هذا الرجل الذي ترك الزمان على تقاسيم وجهه بصمات السنين بكل وضوح، أرتعش ارتعاشة يديه وهو يشير الى نخلة في بستان المرحوم (الزاير دولي) تلك النخلة التي يفضل الجلوس تحتها معظم الوقت لسلم أحاسيسه الى اللا وعي في غيبوبته لا يصحو منها الا على بيت أو بيتين من شعر الأبوذية، كنت أشاهد اغماضة عينيه وتمتمات شفتيه الذابلتين قبل أن يدفع لي (عشرين فلساً) عشرة منها للطابع حيث أرسل له ما كتبت الى شعراء الشطرة وعشرة فلوس يقول لي هذه لك(كتابية) أي ثمناً للكتابة، هذه بعض مذكرات الحسيني الذي عاصر الشاعر قبل رحيله ويذكر ان الشاعر كان يصر عندما يطلب منه أحد ما تدوين أبوذياته أو يذكر جملة (يگول ابو معيشي) ثم يكمل الأبوذية بحيث يزعل زعلاً شديداً عندما لا تذكر هذه الجملة قبل كل بيت من كل أبوذية كتبها الشاعر.

البداهة والارتجال

"أبو معيشي" ما ان يطرق مسمعك هذا الأسم حتى ترد الخاطر اجمل ما قيل من أبيات الأبوذية ،وكيف لا وهو سيدها منذ أن أطلق اول بيت ابوذية في بستان دولي الذي افنى سني عمره عاملا وعاشقا فيه،ويقال ان أول بيت سمعه اهل سوق الشيوخ منه هو ":

وحگ سورة عصا موسى ولك هاف...........ما تسگي زرع گلبي ولك هاف؟.....يناهي العرك غث عينك ولك هاف.....ومن تنعس منامك بين إديه"،فهذا أول الغيث ،فبالتأكيد ان مايلي اروع وادهى وأرق،لاسيما ان شاعرنا اصبح سيد المساجلات واميرها بين مجايليه من الشعراء الكبار،وتميزت ابوذياته في طرق جميع ابواب الحزن والفرح والشكوى والشوق للحبيب او المكان،فضلا عن ابيات السخرية والتذمر وكذلك الهجاء ،فلم يترك ما مقداره ثقب ابرة في عالم الابوذية الا وولجه،معتمدا على خزينه اللغوي ومفرداته البدوية في اللغة التي وظفها بحرفنة وعلمية تبعد عنه تهمة الأمية التي عاشها بجميع تفاصيلها،لكنها الموهبة التي ترى مالايراه فاقدها،فكان سريع البديهية والارتجال في تأليف وانتاج رغيفه الشعري،ومما يروى انه جلس ذات يوم ابو معيشي تحت النخلة التي يفضل الجلوس تحتها دائما في بستان الزاير دولي وقد حاول اسناد ظهره عليها لكنه ماكان يعلم ببعدها عنه ما ادى الى تدحرجه الى الخلف فاعتدل ضاحكا وهوينشد بيتا شعريا يشاطر فيه مثلا شعبيا يقول(يكولون يم عمران صلي صلت وفنكحها الهوه) فقال"اشمالك يازماني علي صاليت....ابنار وحمّسيت اجلاي صاليت......مثل ما صلت ام عمران صاليت...فنكحني الهوى وذبني بنويه".

مساجلاته الشعرية

مساجلاته الشعرية التي تسيد زمانه فيها لايمكن حصرها في صفحة او عشرات الصفحات،فهي كثيرة ومتنوعة الاغراض،حتى قيل ان بعض الشعراء المغمورين كسبوا شهرتهم من تلك المساجلات لردود ابو معيشي عليها،لما لهذا الاسم من وقع في قلوب وعقول اهل الجنوب بصورة عامة وابناء سوق الشيوخ بصورة خاصة ،وفي احدى المرات ارسل له الشاعر عبيد السعيد بيتا من الابوذية يشكو فيه من تقدم العمر ومعاناة الكبر والكهولة يقول فيه"تسعر لاهبه ناري ولدواي....اسجل لاقلم عندي ولدواي....الكريم ايكول كل داي لهدواي...دوه داي الكبر ضايع عليه"فرد عليه ابو معيشي"عند اللازمه بحساب عدنه....وسرور ايصير للطيبين عدنه....الكبر ماله دوه يعبيد عدنه....ابد ماشوف اله غير المنيه"فهو هنا يرد على صاحبه عبيد بكل عنفوان الصراحة ومن غير مجاملة،مبينا له ان فلسفة الحياة التي نعيشها تعتمد على هذه النظرية التي لامجاملات او استثناءات فيها،وارسل له الشاعر هاشم فليح الشطري شاكيا حال الدنيا معه"لمن ياعين ليليتي وسلتي....وراح الجان الي منوه وسلتي.....غزوني وفرهدوا عنبي وسلتي.......وذبوا جتلة الناطور بيه"فيجيبه ابو معيشي بما يواسيه ويبين له ان مصيبته اهون مما يمر به هو ويعيشه حيث يقول له"ذلولك تاه بالبيده وعنباك....انبكت وعيون عذالك وعنباك

انجان انته خذوا سلتك وعنباك.....انه المطلوب للناطور ديه".

الرحيل لمقبرة الزبير

كان يتمتع بحس فكاهي نادر ومحبب لدى الجميع لما له من دلالات واقعية لا تخرج عن المألوف بمجملها،والروايات التي نقلها مجايلوه عنها كثيرة،ففي احد الايام قضى سهرته المعتادة في مجلس آل حمدي حيث يجتمع الشعراء،وعاد الى داره في ساعة متأخرة من الليل،وكان يحرس داره كلب صغير،وما إن فاجأه ابو معيشي بالدخول ،حتى قفز الكلب عليه وعضه من ساقه ومزق ثيابه،فارسل للشاعر حمدي الحمدي شاكيا"إلك عني لسان الحال يرواي...وهم شفت الندى العطشان يرواي....ما تدري يحمدي اليوم يرواي.....أكل زري وملخ ثوب العليه"، ويقال ان ابو معيشي في ايام شبابه كان جالسا في البستان فمرت عليه امرأة حسناء فتحرش بها ،فالتفتت اليه وقالت له بمامعناه (قدمي فيك )، ضحك وقال" تميل الكاع من تمشي ريلها... وكحة وما مأدبها ريلها ...........تريد اتحط بأبو معيشي ريلها... شلون امشي وتضل الريل بيه"،وقال ابو معيشي عندما احترق بيته مخاطبا صديقه الشاعر الحاج سعود" يوم أكشر يحجي سعود يوماي.....همت ما عاد اوجد ارض يوماي...هذا يصيح ذاك يهدم يوماي....الهلاهل للفزع تلحك عليه"،بعد عمر اقترب من عشرة عقود(98)غادر الجوهرة السوداء مدينته سوق الشيوخ الى مقبرة الزبير في البصرة ،وذلك في 24/12/1978،مخلفا للاجيال ارثا شعريا من الاستحالة ان يتجاهله احد او يتخلى عنه لكونه مدرسة الابوذية بلا منازع،ويتفق الجميع بأن آخر بيت أبو ذيه قاله ابو معيشي قبل رحيله هو"صد ليه حكيمي صدعني...عرف بجروح جبدي صدعني....يروحي اصفي البيابي صدعني....احجيلي برفجة الجناز اليه".

مقتطفات من أبوذيات

أبو معيشي

( 1 )

ولا صحلك صديج ارشدك ودلاك

ابجليب اظلم تذب ارشاك ودلاك

ولا كلمن توده صار ودلاك

ابكلبه ولا صفتله اوياك نيه

( 2)

عليك وهملت اعيوني وساليت

يهاشم ناشد العالم وساليت

حسب ظنك نسيت انه وساليت

وراسك بالوسن تطري عليه

( 3 )

المصايب نحلتني الحيل واراك

وحك من خالج النيران واراك

بعد يوم الحشر وحساب وراك

والاعظم سنسله او سبعين اذيه

( 4 )

حادي البل سمع وني وردهم

جفوني اللي يحب كلبي وردهم

صار العرب يمعيجل وردهم

من دمعي اليكت فوك الوطيه

وقال ابو معيشي

تهيم الروح عيب ادري شملهه

تون ولا فرح ساعة شملهه

مته يلتم بعد فركه شملهه

وتعود ايامنه الحلوة الزهية .

( 6 )

عليه او حرمت عيني وسنهه

زماني جرد اسيوفه وسنهه

وحك اللي فرض خمسه وسنهه

بعد هيهات عيش ايصير اليه .

* يوسف المحمداوي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المشـاهدات 1711   تاريخ الإضافـة 08/07/2023   رقم المحتوى 25003
أضف تقييـم