
![]() |
قصص قصيرة جداً هيثم بهنام بردى "*" |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
أستراليا/ ملبورن مطر استرخى على مقعده ونفث دخان سيكاره بتلذذ، تمطى عاقداً ذراعيه وراء رأسه وألقى نظرة متأملة إلى الخارج عبر زجاج المقهى، ثمة رجال يسرعون الخطى وقد أودعوا أعناقهم في ياقات قمصانهم، والرصيف يغتسل بنثيث المطر الهاطل من سماء مسكونة بالسحب مبهورة بالرعد، والقطرة إذ تسقط على الحفر المتوزعة على الرصيف تنتفخ كبالونة لوهلة ثم تنفجر متمازجة مع تموج المياه المتشظية تحت الأقدام المبتلة، أعاد عينيه وخطف نظرة خاملة إلى الداخل… الرؤوس تهتز منتشية مع لحن شرقي مفعم بصوت رائق رائع النبرات يتدفق من الراديو وثمة في الزاوية القصية من المقهى رجل متقنفذ على كرسيه له وجه ثعلب ينظر عبر الزجاج إلى قطتين تهرّان ثم تمتد يده إلى جيب معطفه الممزق ويخرج قنينة العرق، يفتح سدادها بلهفة ويكرع جرعة كبيرة، وحين يهم برد سدادها يغمض عينيه ويهز رأسه الأشيب متساوقاً مع تصاعد حرارة اللحن، فكر مع نفسه.
وقبل أن يحلّق به الخيال سارحاً في رؤاه الزاخرة، قام من مقعده وحمل كتابه الممزق الغلاف وخرج من المقهى تاركاً للمطر حرية العبث بجسده، والأجساد المتدافعة المسرعة تصدمه بالتناوب وكيفما اتفق دون كلمة اعتذار، فيما أحس بسيل من القطرات الملتحمة تنزلق من نحره متدحرجة إلى صدره وبطنه ثم تستقر في جوف سرته، فداهمته انتشاءة عميقة. *** ألفــة بدت يد الرجل القابضة على حبل ينتهي برقبة حصان يحمحم وراءه، كيد مومياء لفرط تيبس أنسجتها، بلع ريقه بصعوبة بالغة، لم ينسكب في زوره أي شيء، حتى ولو قطرة صغيرة من الرضاب، نظر بغضب صوب الشمس التي كانت تلسع الكون بوهجها اللائب، ثم صرخ باستجداء.
شعر بأطرافه تنفصل عن جسده، وانه يطير معلّقاً بين السماء والأرض، يحلّق بين الغيوم الحبلى بالمطر، يمد يده، يقبض على الغيوم ويصهرها في داخله سواق رجراجة… إستمر ينهل من الماء الذي خرش بلعومه في البدء، ثم استوى منزلقاً إلى أحشائه، شعر بالارتواء، تكاتفت كتل الغيوم حوله واستحالت إلى بحر هائج فيما فاحت رائحة الماء تنفذ إلى خياشيمه، صرخ باستجداء.
عاد الرجل إلى نفسه وتلفت حوله مأخوذاً… لا شيء سوى السراب المنساح أمامه فوق الكثبان الرملية اللامتناهية، وكالحلم الجميل سمع صوت رشرشة فالتفت على عجل وأبصر الحصان فارجأ أطرافه الخلفية والبول يسقط على الرمال، لم يضع وقته سدى فتمدد تحت الحصان وفتح فمه تاركاً للماء الأصفر المالح حرية الولوغ إلى أحشاءه، دغدغة إحساس ثرُّ بالارتواء فأستوي واقفاً وربت على غرة الحصان الذي صهل هازاً ذيله، جلس الرجل فوق الرمال وراوده شعور بأن الأرض تناديه إلى الأعماق فتمدد مسندا رأسه على بطن الحصان، الذي سبقه بالجلوس، وسافر ملبياً صدى الهتاف الهادر من أعماق الرمال. *** نظرة قصيرة فقط مد ذراعه المتعبة نحو الكراس وفتحه على الصورة الأثيرة إلى نفسه، كان الكوخ يسبح في مويجات الشمس الفتية وسرب الدجاج منتشر في الطوار ينكث العشب بمناقيره الخشبية والحساسين تتصاخب بين أغصان شجرة البلوط التي تحنو على سقف الكوخ القرميدي الأحمر مثل أم ترضع وليدها، والثور الأرقط واقف جنب المحراث الخشبي ينظر بعينيه الواسعتين إلى المدى الممرع بالخضرة حتى سفح الجبل الرابض بعنفوانه الثلجي في أقصى يمين الصورة، ولج هذا العالم الثر، وقف أمام الباب الخشبي للكوخ لوهلة، ثم خطا نحو حِبٍ مركون عند النافذة وشرب من كوب فخاري، شمّر عن ساعديه المفتولين، وضع طرف الصاية تحت حزامه ثم مشى نحو الثور المتوثب، شكمه بحزم وربطه إلى طرف المحراث ثم ساطه بصوته الراعب فأنشأ الطرف المدبب يبقر أحشاء التراب... وحين دخل الرجال غرفته وتناولوا جسده ثم وضعوه في جوف قماش أبيض وأنشأوا يخيطونه حتى غاب في ثنايا هذا البياض السرمدي، حملوه ووضعوه في التابوت البارد، ألقى عليهم نظرة قصيرة فقط، ثم عاود الحراثة. *
"*": قاص وروائي وكاتب أدب طفل عراقي، له أكثر من أربعين إصداراً في: القصة القصيرة، القصة القصيرة جداً، الرواية، الرواية القصيرة، وأدب الطفل- فئة الفتيان-، الاعداد والتقديم، النقد..... وسواها. |
المشـاهدات 67 تاريخ الإضافـة 22/04/2025 رقم المحتوى 61978 |