
![]() |
المكان والذات في قصيدة "قهقهةُ الحفاةِ قربَ أطلالِ أور" |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
المقدمة تمثل قصيدة "قهقهةُ الحفاةِ قربَ أطلالِ أور" للشاعر معتز رشدي نموذجاً ً لشعر يستبطن الذات المنكسرة في عالم متناقض. تتخذ هذه القراءة من الشعرية الإدراكية منهجاً نقدياً لمقاربة النص، وهي حقل معرفي يجمع بين نظريات علم النفس الادراكي والنقد الأدبي، وهي مقاربة تُعنى بكيفية تشكل المعنى في ذهن القارئ بواسطة العمليات الإدراكية والتصورية أثناء التفاعل مع النص. تسعى هذه المقاربة لاستكشاف الاستعارات التصورية والفضاءات الذهنية التي تؤسس بنية القصيدة وتجربتها الجمالية. وتتمحور إشكالية الدراسة حول: كيف تتجلى الصور الذهنية والمساحات الإدراكية في قصيدة رشدي، وكيف تسهم في تشكيل المعنى وخلق تجربة شعرية فريدة؟ ان القصيدة تستثمر الاستعارات التصورية والفضاءات الذهنية المتعددة لتقديم رؤية للذات المهزومة في عالم متشظٍ، يتداخل فيه الواقع مع الحلم، والتاريخ مع الحاضر، في نسيج شعري كثيف يعكس تجربة وجودية مأزومة. الفضاءات الذهنية المتداخلة تتميز قصيدة رشدي بتشكيلها لثلاثة فضاءات ذهنية رئيسية تتداخل وتتقاطع لخلق بنية شعرية معقدة تعكس انشطار الذات. يمثل الفضاء الواقعي الحاضر المهزوم الذي تجسده عبارات مثل " مهزومون/ ارواحنا شاخت/ في ثياب خَلِقة ٍ/ وعقائدنا زمهرير" و" لا لشيء سوى/لنلثغ باسمائنا بعد حين/عند حواجز التفتيش/في نوايانا ،/او ِلنُصفع/ - كالنساء اللواتي احببننا -/في سجون البلاد"، اذ ينحصر الوجود في " واصبح المرء الذي يتحرك/ في اطار معلق على حائط ٍ" يمثل استعارة تصورية للتقييد والعجز. هذا الواقع المظلم يقابله فضاء الحلم/المنام الذي يشكل مساحة للحرية المؤقتة، حيث " احبتنا النساء/ - كما ينبغي ان نُحب -/في المنامات .!"، لكن هذه الحرية سرعان ما تتلاشى عند "شخير الواقع" الذي يوقظ الذات من أحلامها. يبرز فضاء التاريخ كمستوى ثالث يستحضر أمجاد الماضي عبر رموز حضارية عريقة: "أطلال أور" و"مدافن آشور وبابل". غير أن هذا الماضي المجيد لا يمثل خلاصاً، بل يتحول إلى عبء إضافي حين يصبح مصدراً للمفارقة المريرة: "وكان أسلافي الحمقى ينظرون إلى محنتي ضاحكين بعيونٍ مفتوحةٍ جمدها الموتُ". هنا يتحول الماضي من مصدر فخر إلى شاهد على الانهيار. تشكل مفارقة "الاستيقاظ من الحلم" استعارة تصورية مركزية في النص، وتتكرر بصيغ مختلفة: "أأستيقظت يا صاحبي من لقاء الحبيبة في المنام"، و"هكذا كنا نستيقظ من غرامياتنا"، مما يؤسس ثنائية وجودية بين الواقع المر والحلم الهارب. هذه المفارقة تخلق توتراً إدراكياً بين الفضاءات الثلاثة، اذ يصبح الاستيقاظ لحظة صدمة معرفية تعيد الذات المنشطرة إلى واقعها المهزوم. تتجلى براعة الشاعر في الانتقالات السلسة بين هذه الفضاءات، مما يخلق تجربة قراءة تحاكي الحالة المتشظية للذات. فالقارئ يجد نفسه منتقلاً بين زمن حاضر ("الآن")، وسرد ماضٍ ("وكان أسلافي")، وفضاء حلمي ("في المنام")، دون حدود فاصلة واضحة. هذه الانتقالات المفاجئة تُفعّل "التعيين الإسقاطي"، ويضطر القارئ إلى بناء روابط ذهنية بين الفضاءات المتباينة، مما يجعله يختبر إدراكياً حالة التشظي والانفصام التي تعيشها الذات الشاعرة. استعارات الذات المهزومة تتجلى الذات المهزومة في القصيدة عبر شبكة متكاملة من الاستعارات التصورية التي تؤسس لتجربة شعرية عميقة. تبرز استعارة "الإطار المعلق على حائط" كتمثيل مكثف للذات المقيدة، حيث يصبح الإنسان مجرد صورة ثابتة محصورة في إطار، فاقدة للحركة والحرية. هذه الاستعارة المكانية تحوّل الذات إلى شيء مسطح ومحدود، معلق في فضاء لا يملك فيه أي قدرة على الفعل. ويعمق الشاعر هذه الاستعارة بإضافة عنصر التدنيس حين يصبح الحائط مكاناً "يتبول لصقه الجنديُ، والبائسُ، والميتُ العائدُ"، مما يضيف بعداً وجودياً للإذلال والحصار. يؤسس النص لتشظٍ ذاتي عميق عبر افتتاحيته المدهشة "مثلك أنا أيها القارئ الحائرُ"، اذ يلغي الحدود الفاصلة بين الذات الشاعرة والآخر/القارئ، مما يخلق فضاءً ذهنياً تتماهى فيه الذوات. هذا التشظي يتعمق مع تعدد صفات هذه الذات المتشظية: "المتشبثُ"، "المخفيُ"، "الساقطُ"، "المشيحُ"، "المسحولُ"، في سلسلة تفكك الذات إلى حالات متعددة من العجز والتيه. تتكاثف استعارات الهزيمة في عبارات مكثفة تعتمد على المزج التصوري، مثل "أرواحنا شاخت في ثياب خَلِقةٍ" التي تمزج بين الروح (المجرد) والثياب البالية (المادي)، و"عقائدنا زمهرير" التي تحول المجرد (العقائد) إلى حالة مناخية قاسية (البرد القارس)، مما يخلق فضاءً مدمجاً يجسد الإحباط الفكري والوجودي معاً. يبلغ المزج التصوري ذروته في تداخل الذات الشاعرة مع تشكيلة متنوعة من الآخرين: "أنتَ نفسك، والمعدمُ، والكلابُ الضالةُ، وابنُ السبيل". هذا التداخل يؤسس شبكة التعيين التي تخلق فضاءً ذهنياً موحداً للمهمشين والمهزومين، تتلاشى فيه الحدود بين الإنساني وغير الإنساني، بين الفرد والجماعة، في تجسيد إدراكي قوي لحالة الاغتراب الشامل. المكان والسلطة في البنية الإدراكية تتجلى علاقات السلطة في القصيدة عبر استعارات مكانية قوية تؤسس لفضاء إدراكي للقمع. تظهر السلطة في صورة "الرئيس" الذي تتحول رموز منصبه "النجوم على كتفيه" إلى استعارة تصورية للهيمنة، اذ تكتسب هذه النجوم بعداً تاريخياً صادماً كونها "مسكوكة من أضراس ملوكنا الذهبية". هذه الاستعارة تمثل مزجاً تصورياً بين فضاءين متباعدين: الماضي التاريخي المجيد (ملوك آشور وبابل) والحاضر المبتذل، مما يخلق مفارقة إدراكية صادمة تحوّل رمز السلطة من مصدر فخر إلى دليل على الاستلاب التاريخي. تتعمق استعارة السلطة القامعة في صورة عينا الرئيس كحوت تبتلع الهاربين من الجيش: "وكانت عينا الرئيس/ كالحوتة المنحوتة التي/تبتلع الهاربين من الجيش" وهي استعارة حيوانية تستدعي حيواناً مفترساً لتجسيد الرقابة المطلقة والبطش. تقابل هذه الاستعارة تمثيلات مكانية للقمع مثل "سجون البلاد" التي توصف بشكل مهين بأنها "بلاد المراحيض"، في إسقاط إدراكي يحوّل الوطن من فضاء للانتماء إلى مكان للتدنيس. تبلغ التمثيلات المكانية للقمع ذروتها في استعارة "حواجز التفتيش في نوايانا" التي تمثل استبطاناً للقمع، ينتقل فيه الحاجز المادي من العالم الخارجي إلى الفضاء الداخلي للذات. هذه الاستعارة تعكس "الإسقاط الداخلي"، اذ تستبطن الذات آليات قمعها وتمارسها على نفسها. تتكامل هذه الاستعارات المكانية لتشكل فضاءً إدراكياً متشظياً يعكس انقسام المكان بين مستويات متصارعة: المكان التاريخي المجيد (أطلال أور)، والمكان الحاضر المبتذل (بلاد المراحيض)، والمكان الداخلي المقموع (حواجز التفتيش في النوايا)، مما يؤسس لتجربة إدراكية تعكس الاغتراب المكاني الشامل. الجسد كفضاء إدراكي للهزيمة يتحول الجسد في القصيدة إلى فضاء إدراكي مكثف للهزيمة عبر استراتيجية التجسيد التي توظف الخبرات الجسدية لبناء معانٍ مجردة. تبرز استعارة "العين اليمنى المتورمة" كتمثيل جسدي للأذى، تصبح فيه إصابة العين - وهي أداة الرؤية والإدراك - استعارة لخسارة القدرة على الرؤية الواضحة في واقع مشوه. وترتبط هذه الاستعارة الجسدية بسؤال محوري: "استيقظت بعينك اليمنى هذه المتورمة من شجار، هناك، مع إنكشاري عذول!؟"، مما يربط الأذى الجسدي بالصراع مع السلطة التاريخية (الإنكشاري). تتعمق استعارات التجسيد في صورة "غصصتَ بتفاحةٍ معضوضة"، التي تستحضر تجربة حسية مباشرة (الاختناق بالطعام) لتمثل الاختناق الوجودي والادراكي. هذه الاستعارة تعكس ما الاستعارات الإدراكية الأساسية التي تعتمد على تجارب جسدية أولية. تشكل الاستعارات الجنسية المحبطة محوراً بارزاً في القصيدة، وخصوصاً في عبارة " وكان شخير الواقع/من حولنا/يوقظنا ، كلما هم ابنُ ذريح ٍ فينا/بخلع بنطاله/امام انظار لبنى ./هكذا كنا نستيقظ/من غرامياتنا". تؤسس هذه الاستعارة لدمج تصوري بين الجنسي والسياسي، يصبح فيه الإخفاق الجنسي استعارة للعجز السياسي والاجتماعي. وتتعمق هذه الاستعارة حين يتحول "البكاء" و"السكر" إلى ملاذين أخيرين للجسد المهزوم: " ام تراك بكيت اعمىً/من شدة السكر/ - والحفاة يقهقهون الى جوارك -/امام مرآتك ؟. هكذا يتحول الجسد إلى ساحة صراع تتجسد فيها الهزيمة المجردة في تجارب حسية مباشرة، مما يخلق تجربة إدراكية غنية تربط بين المعاناة الجسدية والهزيمة الوجودية، وتعكس بعمق انهيار الحدود بين الخاص والعام، بين الجسد والمجتمع. الخاتمة تقدم قراءة قصيدة "قهقهةُ الحفاةِ قربَ أطلالِ أور" من منظور الشعرية الإدراكية نموذجاً لكيفية توظيف الاستعارات التصورية والفضاءات الذهنية في بناء تجربة شعرية متشظية تعكس انكسار الذات في عالم متناقض. ينجح النص في استخدام استراتيجيات إدراكية متنوعة لخلق شبكة معقدة من العلاقات بين الفضاءات المختلفة: الواقع والحلم، التاريخ والحاضر، الجسد والمجتمع، الذات والآخر. تمثل استعارة "الهزيمة" البنية الادراكية المركزية التي تنظم التجربة الشعرية، وتتجلى على مستويات متعددة: في علاقة الإنسان بالمكان، في تشظي الذات، في استبطان القمع، وفي تجسيد الهزيمة المجردة عبر تجارب جسدية ملموسة. هذه الاستعارة المركزية تؤسس لحالة انفصام بين الذات والواقع، ويصبح الاستيقاظ من الحلم لحظة صدمة معرفية تعيد الذات المنشطرة إلى واقعها المهزوم. |
المشـاهدات 248 تاريخ الإضافـة 20/05/2025 رقم المحتوى 63138 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |