الإثنين 2025/6/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 29.95 مئويـة
نيوز بار
شق البحر بين الأسطورة والدين.. سلام حربه
شق البحر بين الأسطورة والدين.. سلام حربه
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

يبقى الخيال الانساني وغيره من الطاقات الذهنية الخلاقة هي من ترسم ملامح الحاضر وخطوط المستقبل، لقد لعب الخيال دورا أساسيا مهما في صياغة الحياة البشرية وصدق العالم أنشتاين حين قال ( العالم تقوده فكرتان العلم والخيال، لكن الخيال يسبق العلم في صياغة واقع المجتمعات ). من يقرأ تاريخ البشرية سيجد صحة هذا الكلام إذ أن بداية التفكير العقلي ونشوء التصورات الدينية كانت خيالية وخرافية وهذا ما نلمسه في انتاج الآلاف من الأساطير والملاحم والقصص اللاواقعية الغرائبية. لقد أبدع السومريون من يوم وجدوا على أرض بلاد الرافدين في صياغة الأساطير التي لم تنتجها وقائع الحياة اليومية آنذاك، بل أن العقل البدائي هام خياله في الفضاء الفسيح ليحضر لنا كشوفات دينية عن الخلق وكل تفاصيل الحياة في ذلك الزمن. هذه التصورات الخيالية ( الأساطير ) استثمرتها، بمرور الأزمان، كل المجتمعات ونفذت بيسر وشفافية في العقل الجمعي وكأنها من نتاج الواقع المادي المعاش وخير من يمثله، وجاءت الأديان الأرضية والسماوية لتمنح هذه الأساطير قدسية دينية لا يأتيها الباطل لا من قريب ولا من بعيد وأصبحت حقائق ملموسة تدور على كل الألسن دون شك أو ظلال زيف. من هذه الأساطير ( المقدسة ) أسطورة شق البحر في سفر خلق الكون السومري. وكما هو معلوم للجميع أن أصل الأساطير هي في بلاد سومر وأولى الحضارات في التأريخ، السومريون عبدوا في البدء الإلهة الأنثى نمو وهي المياه الأولى التي انبثق منها كل شيء..

( في تلك الأزمان الأولى لم يكن سوى المياه. )

أنجبت الإلهة نمو إله ذكر آن إله السماء والالهة كي إلهة الأرض وقد كانا ملتصقين، تزوج أن وكي وأنجبا الإله أنليل إله الهواء والعواصف الذي حرر التصاق أبوه وأمه، فصار الإله آن اله السماء وكي إلهة الأرض..

أبعد السماء عن الأرض

أبعد الأرض عن السماء

في هذه الأسطورة أول اشارة الى شق المياه من قبل الإله أنليل كي يخلق السماء والأرض. هذه الفكرة الساحرة في عملية خلق الكون وفصل الماء الى عالمين لم تبق كما هي، فقد انتبهت لها الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، بعد قرون عديدة، وظهرت في الأساطير اللاحقة بعد أن أضيف لها الكثير من الأحداث وما يجريه الزمكان من تغيير واضح وبروز المصالح الفئوية والشخصية نتيجة للتطورات الاجتماعية الحاصلة في المجتمعات البشرية وانتقالها من مرحلة الصيد الى الزراعة وظهور الإله الذكر الذي سيتغلب على الإلهة الأنثى وهذا ما حصل في بلاد بابل حين أُستثمرت تلك الدلالة ( شق البحر ) في أعظم أسطورة أنتجها العقل البشري وهي أسطورة الخلق البابلية ( الأينوما ايليش ) عندما في الأعالي التي ظهرت في الألف الثانية ق.م ويرجح كتابتها في زمن الملك البابلي حمورابي الذي دام سلطانه اثنان واربعون عاما 1792_ 1750 ق.م وأعلن فيها نهاية سلطة الإلهة الأنثى وسيادة الإله الذكر حين دخل الإله الزراعي مردوخ ،كبير الآلهة البابليين إبن الإله أنكي وهو الإله الراعي على بابل بأمر من الملك حمورابي،في صراع مع الإلهة تيامات، إلهة المياه المالحة، الذي يرتبط اسمها بكلمة توماتو وتعني البحر، هذه الكلمة أُخذت من الأكدية تيامتوم، حيث قام بعض الناقلين الأكديين لأسطورة الخلق الأينوما ايليش باستبدال كلمة البحر بتيامات لأن الكلمتين تحملان نفس المعنى. الإلهه تيامات متزوجة من أبسو، إله المياه العذبة. تصور الأسطورة تيامات على شكل تنين عملاق ترمز دائما الى فوضى الخلق وترتبط أصول تيامات البابلية بالإلهة نمو السومرية الأم الحامية والمربية، لكن تيامات في الأسطورة البابلية محاربة ومنتقمة وشريرة نتيجة فقدانها مواقعها في البانثيون الرافديني وتبرز عدوانيتها حين يُقتل زوجها أبسو على يد الجيل الأول من الآلهة، قررت الإنتقام لزوجها مدفوعة من أبنائها ضد الأعداء من الآلهة الصغار ومنهم مردوخ. أطلقت تيامات التنانين الصغار الذين تمتلأ أجسادهم بالسم بدل الدم، بارزها الإله مردوخ وقتلها وحطم جمجمتها وشطر جسدها ليشكل منهما السماء والأرض ومن عينيها تدفق نهري دجلة والفرات وذيلها جعله طريقا للآلهة ما يسمى بدرب التبانة.

( اذا كان يجب أن أصبح منتقمكم/ اذا قيدت لكم تيامات وصنتكم/ اعقدوا اجتماعا واعلنوا لي قدرا عظيما/ اجلسوا جميعا في بهجة/ اسمحوا لي بتولي، ان أقرر المصائر بدلا عنكم/ كل مبادرة مني يجب أن لا تغفل/ لا يجوز إبطال أمري أو تغييره/ السطور ( 156_ 162 )..

بقيت أسطورة الخلق البابلية ( الاينوما ايليش ) حية تتداولها الشعوب لما فيها من دلالات ومعان في خلق الكون والبشر وفتحت الآفاق فيما بعد للشعوب لتأويل هذه الأسطورة واضافة ما يمكن أن يضاف اليها منسجما مع تطور الحياة عبر العصور والقرون ما يسمح بتفتح العقل وتوسيع مداركه. أول من انتبه اليها اللاويون والعبرانيون الذين جيء بهم سبايا على يد نبوخذ نصر الثاني في السبي البابلي الأول عام 597 ق.م والسبي الثاني عام 587 ق. م  حيث اطلّع السبايا على حضارة بابل وأساطيرها وملاحمها ومعارفها العلمية والقانونية ورأوا بأم أعينهم وسمعوا تراتيل البابليين وهم ينشدون أسطورة الخلق البابلية فقاموا هناك بكتابة الأسفار الخمسة من المقدس العبري وهي ( التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية ) . يؤكد المؤرخون أن هذه الأسفار كتبت في القرن الخامس ق. م وليس كما يدعي كهنة اليهود بأن هذه الأسفار كتبت في القرن الثالث عشر والرابع عشر ق.م، اذ قام عزرا الكاهن وهو في بابل باعادة صياغة النصوص وتدوينها رسميا لتصبح الكتب المقدسة لليهود وكان من بين الأساطير التي شدت انتباههم اسطورة الخلق البابلية اينوما ايليش ومن بين فقرات هذه الاسطورة خلق الكون بشق إلهة البحر تيامات الى نصفين لتشكيل السماء والأرض، حاولوا أن يخلقوا تأريخا لليهود باستثمار هذه الأساطير البابلية والسومرية وجعلوا من أسطورة شق البحر واقعة تأريخية لها زمانها ومكانها المفترضين وربطها وجوديا بمأساة الشعب اليهودي وأضافوا اليها أحداثا ملحمية وصراعا بين موسى وفرعون مصر ومحاولة موسى الهروب من الظلم والموت فلم يجد سوى البحر ..                   

( فمد موسى يده على البحر، فاجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة فانشق الماء، فدخل بنو اسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم ) سفر الخروج، الآيات 21_ 22

( وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم، جميع خيل فرعون ومركباته وفرسانه الى وسط البحر، فأزاح الرب بعجلة المركبات، وسقط الجند في البحر ..) سفر الخروج، الآيات 23_ 25

( فقال الرب لموسى، مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، على مركباتهم وفرسانهم، فمد موسى يده على البحر، فرجع الماء عند الصباح على حاله، والمصريون هربوا للقاء الماء فدفن الرب المصريين في وسط البحر..) سفر الخروج ،الآيات 26_ 28

( فرأى اسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين، فخاف الشعب الرب، وآمنوا بالرب وبموسى عبده..) سفر الخروج، الآية: 31

بقيت قصة شق البحر اليهودية مثار جدال بين الأوساط العلمية والدينية حتى يومنا هذا، ففي الوقت الذي ذكر المؤمنون أن شق البحر بيد موسى معجزة إلهية لانقاذ المؤمنين وتدمير الكفار الظالمين فرعون وأعوانه وجنوده بعد أن حاولوا عبور البحر ولكنهم غرقوا جميعا فكانوا عبرة ونهاية مأساوية لكل ظالم كما ذُكرت تلك الحادثة في القرآن الكريم..

( فأوحينا الى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْقِ كالطود العظيم ) الشعراء : 62   

( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ..)  الشعراء: 8

في الجانب الآخر يؤكد الكثير من الباحثين والمنقبين ومنهم علماء يهود أن قصة خروج النبي موسى وعبوره البحر قد لا يكون لها أساس من الصحة، ولم يجدوا في بحثهم الطويل في مصر وبحريها ونهرها وبحيراتها على ما يؤكد ما ورد في سفر الخروج العبري من حصول مثل هذه الحادثة قديما..

في الحضارة المصرية القديمة هناك قصة بسيطة بعنوان ( سنفرو وفتيات القصر ) يعتبرها العلماء المصريون الأساس الذي قامت عليه قصة شق البحر في التوراة .تتحدث عن ملك مصري، مؤسس الأسرة الرابعة، اسمه سنفرو أراد أن يتنزه في بحيرة قصره وأشار اليه كبير الكهنة أن ياخذ معه عشرين من فتيات القصر الجميلات، الفتيات يغنينّ ويقمن بحركات جميلة وهن يجدفن القارب فسقط حلية احداهن في الماء ، رفضت الفتاة أن يعوضها الملك ما تريد من حلي وجواهر عوضا عنها لكنها أصرت على استرداد حليتها فأحضر الكاهن كبير المرتلين الذي ألقى شيئا من السحر فتجمع الماء على جانب وظهر قاع البحيرة وكانت الحلية على قطعة من الفخار صعدت اليه وسلمها الى الفتاة..

تبقى الأساطير السومرية والأكدية والآشورية والبابلية هي من أنشأت الطقوس والعقائد عند البشر وهي التي وضعت أسس الحياة البشرية منذ أقدم العصور..

المشـاهدات 73   تاريخ الإضافـة 31/05/2025   رقم المحتوى 63498
أضف تقييـم