الأربعاء 2025/7/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
البعد الفلسفي والاجتماعي لمسرح الشارع
البعد الفلسفي والاجتماعي لمسرح الشارع
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

حيدر كاطع المرشدي

 

في قلب الفضاء العام حيث تلتقي الأجساد وتتصادم اليوميات ينبثق مسرح الشارع بوصفه فعلاً إنسانياً عميق الجذور متجذراً في الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإنسان عن وجوده حريته موقعه في المجتمع وعلاقته بالسلطة والمعرفة إنه ليس مجرد وسيلة للتسلية أو عرض مؤقت لجذب الانتباه بل هو ممارسة وجودية تعبّر عن توتر الإنسان مع محيطه عن رفضه للصمت وعن حاجته الملحّة للكلام خارج حدود المؤسسات الرسمية

أولاً: المسرح كأداة فلسفية لطرح الأسئلة

 

منذ فجر الفلسفة كان المسرح حاضناً للجدل الوجودي لكن مسرح الشارع تحديدًا يذهب أبعد لأنه يُسقط الفلسفة من برجها العاجي إلى الأرض في مسرح الشارع لا تُطرح الأسئلة بين الأسطر أو في الجمل المبطّنة بل في العيون المفتوحة في الوجوه المنفعلة وفي الجسد الذي يصرخ بما لا يستطيع قوله بالكلمات

إنه مسرح يرفض اليقين ويتبنى الشكّ كوسيلة للوعي هنا يتقاطع مع مقولات ألبير كامو عن العبث ومع تأملات حول الحرية بل ويجد له موطئ قدم في فلسفة عن السلطة والمراقبة فالممثل في الشارع لا يخاطب جمهوراً مطواعاً بل يخترق الوعي العام ويعيد صياغته يُقلق المُتفرج ويجبره على التفكير في واقعه لا كما يُقدَّم له بل كما هو

 

مسرح الشارع يُعرّي الزمن ويفضح الصمت ويستعيد المكان من سياقات الترويض إنه يقترح وجودًا متمردًا يعيد فيه الإنسان امتلاك صوته وسرده الخاص

 

ثانيًا: الإنسان في قلب الفضاء

 

لا يمكن الحديث عن مسرح الشارع دون التوقف عند الفضاء نفسه بوصفه عنصرًا مركزيًا الفضاء هنا ليس خلفية جمالية بل فاعلٌ فلسفي واجتماعي الشارع كما يراه المسرحيون هو نسيج اجتماعي من العلاقات المتشابكة والصراعات الطبقية والتفاوتات الثقافية

 

في هذا الفضاء يُستدعى الإنسان بوصفه فاعلًا لا مفعولًا به يتحول المتفرج من متلقٍ صامت إلى شريك في المعنى وتصبح العلاقة بين المؤدي والجمهور علاقة أفقيّة لا عمودية علاقة تقوم على التفاعل والتأويل لا على التلقين أو الإذعان من هنا فإن مسرح الشارع يستعيد مفهوم "الإنسان المواطن" لا "الإنسان المستهلك"

 

ثالثًا: ضد النسق الرسمي

 

في المجتمعات المغلقة يُعدُّ مسرح الشارع تهديدًا لا لأنه يرفع شعارات مباشرة بالضرورة بل لأنه يفكك السرديات الكبرى ويعرّي البُنى الرمزية للسلطة سواء كانت سلطة الدولة أو الدين أو رأس المال أو الأيديولوجيا

 

مسرح الشارع لا يخضع للرقابة المسبقة ولا يُقدّم في فضاء يمكن احتواؤه بسهولة ولذلك فهو مزعج هذا "الإزعاج" الفلسفي والسياسي هو ما يمنحه عمقه وصدقه إنّه يمارس فعلًا من أفعال المقاومة الناعمة لكنه الأكثر تأثيرًا لأنه يشتغل على مستوى الوعي الجماعي وعلى مستوى التفاصيل اليومية التي يتم تجاهلها عمدًا.

 

رابعًا: الجسد بوصفه نصاً

 

من أبرز أبعاد مسرح الشارع الفلسفية هو تحويل الجسد الإنساني إلى نص في ظل غياب الديكور والماكياج والإضاءة المسرحية يصبح الجسد هو الوسيط الأول والأخير لكنه ليس جسدًا زينتُهُ الحركات بل جسد يُفكّك نفسه يُعرّي آلامه ويُحرّر رغباته من القمع والترويض

 

الجسد في هذا المسرح يحمل آثار القمع السياسي والبطالة والتهميش ويحوّلها إلى صور حية نابضة موجعة الجسد هنا لا يؤدي بل "يُفصح" عن أشياء يُمنع من قولها في أماكن أخرى إنه احتجاج مرئي ناطق بصمتٍ صارخ.

 

خامسًا: الفن في مواجهة اليومي

 

لعل واحدة من أعمق الأسئلة التي يطرحها مسرح الشارع هي هل يمكن للفن أن يكون بديلاً عن اللامبالاة؟

الجواب يقدمه هذا المسرح في كل مرة يقرر فيها فنانون الوقوف وسط الجموع دون أجور ودون ضمانات ليُعلنوا أن الإنسان ما زال قادرًا على المقاومة... بالجسد، بالكلمة، بالإيماءة، وبالخيال.

 

يضع هذا المسرح الفن في مواجهة اليومي لا هربًا منه بل خوضًا فيه الفن هنا لا يُنتَج للعرض فحسب بل من أجل التأثير لذلك يحمل مسرح الشارع همًّا أخلاقيًا لا يقل عن الفني كيف يمكن للفن أن يكون صوت من لا صوت له؟ كيف يمكنه أن يفتح الأبواب الموصدة في وعي الناس في ذاكراتهم، في صمتهم الطويل؟

 

سادسًا: العدالة الرمزية

 

واحدة من أجمل وظائف مسرح الشارع هي تحقيقه "العدالة الرمزية" في مجتمعات تسود فيها التفاوتات ويُختطف فيها الخطاب العام من قِبل فئات محددة يعيد هذا المسرح توزيع فرص التعبير يضع العامل والعاطل والمهمش  والمُغيّب في مركز المشهد لا في هامشه

 

إنها لحظة يستعيد فيها الإنسان قدرته على أن يكون مرئيًا وأن يُصغي إليه الآخرون ولو للحظة في زمن تُحتكر فيه المنصات من قبل السلطة والإعلام والتكنوقراط، يأتي مسرح الشارع ليمنح المنصة لوجوهٍ عادية، لكنها حقيقية.

 

سابعًا: مسرح التحول والاحتمال

 

مسرح الشارع ليس مشروعًا مكتملًا، بل فعل احتمالي دائم إنّه يُبنى في كل لحظة، ويتحوّل مع كل عرض ويتأثر بالمكان والجمهور والطقس والضوضاء هذه السيولة ليست ضعفًا، بل قوة. إنها تجعله أكثر قربًا من الحياة، أكثر صدقًا، وأكثر فوضى.

 

الفوضى هنا ليست خللاً بل تعبيرًا عن مقاومة "التنميط" وعن رفض "النظام الكامل" الذي تفرضه السلطات عبر مؤسساتها ولذلك، يُعدّ مسرح الشارع واحدًا من آخر الفضاءات التي تمنح الإنسان فسحة للوجود الحر، للقول المختلف، وللصمت الحُرّ.

 

في النهاية يمكن القول إن مسرح الشارع ليس فقط فنًا بل رؤية للعالم. إنه اقتراح فلسفي للعيش في زمن مشوّه ومحاولة فنية لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان وذاته وبين الإنسان ومجتمعه إنه فن الشوارع التي لا تُبنى بالخرسانة فقط بل بالصراخ بالدموع وبالقصص التي لا تُقال إلا همسًا

 

قلعة سكر، 2025

المشـاهدات 433   تاريخ الإضافـة 23/06/2025   رقم المحتوى 64183
أضف تقييـم