الثلاثاء 2025/7/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
المسرح التسجيلي في مواجهة النسيان
المسرح التسجيلي في مواجهة النسيان
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

د. ياسر عبد الصاحب البرّاك

 

يشهد العراق منذ عام 2003 سلسلة من الأحداث المأساوية التي تركت أثراً عميقاً في الذاكرة الجماعية للمجتمع العراقي. في ظل هذه المتغيرات الدراماتيكية، يبرز المسرح التسجيلي كأحد أكثر الأشكال المسرحية قدرة على توثيق هذه الأحداث وتقديم قراءة تحليلية لها ، بهدف ترسيخها في الذاكرة الجماعية ومنع تكرارها. وتنطلق هذه المقالة من مقولة المؤلف والمخرج الألماني بيتر فايس (1916 – 1982):  "النسيان يسمح بتكرار المأساة"، لتؤكد على أهمية المسرح التسجيلي في محاربة النسيان الجماعي عبر تقديم سرد مسرحي يستند إلى الوثائق والشهادات الحية. هذه المقولة لا تعكس فقط حاجة العراق إلى تسجيل مآسيه، بل تعكس تجربة عالمية حيث إستخدمت العديد من الشعوب المسرح التسجيلي لمواجهة إرث العنف والإضطهاد مثل جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية .المسرح التسجيلي هو أحد أشكال المسرح الذي يعتمد على وثائق وشهادات واقعية بوصفه مصدراً أساس للنص المسرحي، حيث يتم إستعراض الأحداث السياسية والإجتماعية كما هي ، من دون إضافات درامية مبالغ بها . وقد برز هذا النوع من المسرح بوصفه أداة فعالة في إثارة الوعي وتقديم قراءة نقدية للتاريخ المعاصر . في سياق العراق ، يمكن توظيف هذا المسرح لتوثيق الفظائع والمآسي التي شهدها البلد منذ الإحتلال الأميركي في 2003، مروراً بالحرب الطائفية، وظهور التنظيمات الإرهابية، وصولاً إلى الاحتجاجات الشعبية والقمع السياسي. ومن أبرز التجارب العالمية في المسرح التسجيلي تجربة "مسرح المحكمة" في ألمانيا، حيث تم تقديم محاكمات نورمبرغ في قوالب مسرحية، وتجربة "مسرح المقهورين" لأوغوستو بوال في أمريكا اللاتينية، التي إستخدمت المسرح لنقل معاناة المُهمَّشين .وإذا ما أردنا أن نتحدث عن المسرح التسجيلي وأهميته في السياق العراقي، سنجد أنه منذ الإحتلال الأميركي، تعرض العراق لأحداث عنيفة متتالية، بدءاً من سقوط السلطة السابقة، إلى العنف الطائفي، وإنتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم داعش، والإحتجاجات الشعبية التي قوبلت بالقمع. لذلك فإن تسجيل هذه الأحداث مسرحياً يساعد في ترسيخها في الوعي العام، وتحفيز النقاش حولها، ما يمنع تكرار الأخطاء السابقة. إن المسرح التسجيلي يمكنه أن يحقق ذلك عبر عدّة غايات منها : التوثيق والتأريخ المسرحي، حيث يمكن أن يكون المسرح التسجيلي بمثابة أرشيف بصري وحواري يسلط الضوء على تفاصيل الأحداث التي قد يتم تجاهلها أو تزييفها بمرور الزمن . فعلى سبيل المثال، يمكن إنتاج مسرحية تُسلط الضوء على كيفية نشوء الطائفية في العراق بعد 2003 ، عبر مقابلات مع شخصيات سياسية ، وصحفيين ، وأفراد من الطوائف المختلفة . فضلاً عن تحفيز التفكير النقدي عبر تقديم أحداث واقعية بلغة مسرحية، يُتاح للجمهور إعادة النظر في التاريخ من زوايا مختلفة ، كما في تجربة المسرح التسجيلي في الولايات المتحدة حول هجمات 11 سبتمبر ، حيث تم جمع شهادات الناجين وأهالي الضحايا وتقديمها في عروض مسرحية . كذلك إثارة التعاطف الإنساني، حيث يُمكّن هذا النوع من المسرح الجمهور من معايشة المأساة عبر شهادات حقيقية ، مما يعزز الشعور بالمسؤولية الجماعية تجاه الضحايا والناجين، كما هو الحال في مسرحية "إنشودة أنغولا"  التي وثقت الحرب التحررية الأنغولية (1961 – 1974) ضد الإستعمار البرتغالي .ويمكننا أن نُعطي بعض النماذج المقترحة لموضوعات عراقية يمكن للمسرح التسجيلي أن يستلهمها لإنتاج أعمال توثق المحطات الدامية في العراق ، ومنها :إحتلال العراق ( 2003 ) : إستناداً إلى شهادات جنود وضحايا مدنيين عن سقوط بغداد وما تبعه من فوضى سياسية وإجتماعية ، حيث يمكن إستلهام تجربة مسرحية "بغداد تحترق" التي قامت باقتباسها المديرة الفنية لفرقة "ستة أرقام" الأمريكية كيمبرلي كيفجن والمديرة الأدبية لورين إنغريد نوفيك ، وإعتمدت على مدونات لنساء عراقيات عشن تحت الإحتلال .مجزرة سبايكر ( 2014 ) : تقديم مشهدية مسرحية مستندة إلى شهادات الناجين وعائلات الضحايا ، على غرار مسرحيات سجلت مذابح الأرمن أو محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية .إحتجاجات تشرين (2019-2020): توثيق المظاهرات الشعبية ضد الفساد والقمع الأمني، من خلال روايات المتظاهرين وعائلات الشهداء، كما تم تقديم إحتجاجات الربيع العربي في بعض المسرحيات العربية المعاصرة .الإبادة الإيزيدية على يد داعش (2014): إعادة تقديم شهادات الناجين من الإبادة الجماعية بأسلوب مسرحي مؤثر ، مستفيدين من تجربة المسرح الرواندي الذي تناول الإبادة الجماعية في عام 1994 .وإذ ما أردنا أن نتحدث عن التحديات والإمكانات التي يُمكن للمسرح التسجيلي أن يواجهها في العراق فسنجد أنه على الرغم من قوة هذا المسرح في توثيق المآسي ، إلا أنه يمكن أن يواجه تحديات إنتاجية مهمة لعل في مقدمتها الرقابة السياسية والإجتماعية والدينية، إذ قد تواجه المسرحيات التي تسلط الضوء على القضايا السياسية والإجتماعية والدينية الحساسة قيوداً حكومية أو مجتمعية أو دينية، كما حصل مع بعض المسرحيات في العالم العربي التي تم منعها بسبب تناولها لموضوعات سياسية حساسة. فضلاً عن صعوبة الوصول إلى الشهادات الحيّة، إذ أن بعض الشهود قد يخشون الإدلاء بشهاداتهم علناً بسبب تهديدات أمنية، كما حصل مع العديد من الصحفيين والناشطين الذين غادروا العراق خوفاً من الملاحقة. ناهيك عن ضعف التمويل والدعم ، فالمسرح العراقي يواجه تحديات مادية تُعرقل إنتاج أعمال ذات جودة عالية ، وهو ما يعاني منه أغلب المسرح العربي عموماً ، حيث غالباً ما يتم تمويل المسرحيات التسجيلية من منظمات حقوق الإنسان أو المؤسسات الثقافية المستقلة . ومع ذلك ، فإن المسرح التسجيلي يمتلك إمكانات كبيرة إذا تم دعمه من قبل المؤسسات الثقافية والمجتمع المدني، حيث يمكن أن يكون أداة توعوية مؤثرة تدفع نحو التغيير المجتمعي.ومن أبرز النماذج الناجحة دعم بعض المهرجانات الدولية للمسرح التسجيلي، كما هو الحال في مهرجان إدنبرة ومهرجان أفينيون، مما يفتح المجال أمام المسرحيين العراقيين للتعاون مع هذه المؤسسات . إن النسيان، كما يؤكد بيتر فايس، يسمح بتكرار المآسي، ولهذا ينبغي على المسرحيين العراقيين تبنّي المسرح التسجيلي كأداة لتوثيق الجرائم والمآسي التي شهدها العراق.فالمسرح ليس مجرد ترفيه، بل هو وسيلة لإحياء الذاكرة، وتحفيز النقاش المجتمعي، وتقديم بدائل للمستقبل. ومن هنا، ينبغي على المؤسسات الثقافية، والفنانين، والكتّاب دعم هذا النوع من المسرح ليكون شاهداً على التاريخ ، وضماناً لعدم تكرار مآسي الماضي. إن تطوير هذا النوع من المسرح يمكن أن يُسهم في إنتاج خطاب ثقافي مُقاوم للسلطة القامعة، ويكون بمثابة صوت للضحايا والمنسيين في التاريخ العراقي الحديث.

المشـاهدات 146   تاريخ الإضافـة 24/06/2025   رقم المحتوى 64204
أضف تقييـم