
![]() | ||||||||||||||||||||
تراتيل شجن البوح وكيمياء النص الشعري | ||||||||||||||||||||
![]() ![]() ![]() |
||||||||||||||||||||
![]() | ||||||||||||||||||||
![]() | ||||||||||||||||||||
![]() | ||||||||||||||||||||
النـص :
د. سمير الخليل يتكاثف المعنى الشعري في مجموعة (أبوح بشجني) للشاعر (خضر خميس) من خلال القدرة على انتقاء المفردة الشفيفة والدالّة ومتعددة الإيحاء التي تسهم في تأسيس وخلق الصورة الشعرية ذات التوهّج والإشراق الداخلي على الرغم من أن الشاعر يميل إلى أجواء ومناخات الأسى ويجعل الهمَّ الإنساني محوراً مركزيّاً في هذه المجموعة، إذ يصف الجمال ويتّخذ من الرثاء وسيلة للكشف عن الشخصيّات التي تجسّد الاستثناء والفرادة والعمق والدلالة، ولذا لم يلجأ إلى الرثاء بالمفهوم التقليدي القائم على المحمول التراجيدي والحزن، بل يخلق انزياحاً دلالياً حين يتحوّل الخطاب الرثائي إلى تأمّلات وجودية، والبحث عن الموقف والمعنى والتمجيد. وانطلاقاً من سيميائية العنوان نلحظ التوكيد على مفردة البوح التي جسّدتها النصوص المرتكزة على نوع من الخطاب الذاتي القائم على العذوبة وجمالية الرؤية والتقاط المواقف واللحظات الفارقة، وصوغها في فضاء شعري باذح منفتح على تعدّد المعاني والرؤى والإشارات المنتجة للمعنى . ونلحظ التوكيد على مفردة (الشجن) حيث تتحوّل القصائد إلى تراتيل مفعمة بالأسى وتخلق الصور، وحمولة الحزن فضاء لتقديم رؤية إنسانيّة ووجودية تدلل على الفراغ والوحشة بغياب المعنى المتمثّل بانحسار الذات المتميزة أو ذات المحمول الإنساني والقيمي، ولعلّ هذا النوع من البوح والشجن يتصاعد في نصوص رثائية شفيفة ومتعالية تتوّجه إلى قدسيّة اللحظة الفارقة التي يمثّلها الإمام علي والحسين رمزاً للشجن الإنساني ورمزاً للموقف الباذخ، إذ يردّد أقدس (لا) في التاريخ البشري . ويتوجه الشاعر كذلك في نصوص رثائية أخرى مؤطّرة بالحزن المقترن بالتمجيد لأرواح شهداء تشرين تلك الانتفاضة الهائلة المعنى التي انتجت القرابين القادرة على صناعة الرفض وإقامة السؤال والبحث عن الحريّة وعن الوطن المستباح. وتلفتنا الظواهر الفنيّة في هذه المجموعة التي ترتكز على تعميق الاختلاف، وكسر التوقع الشعري، وذلك باعتماد الشاعر على لغة شعريّة تنطوي على عذوبة وجمال في المعنى والإشارة وتأسيس المدى البصري فضلاً عن ولع الشاعر بتحقيق عالم من الإفضاء الشعري متعدّد المعاني من خلال ظاهرة الإنزياح الدلالي، وتفعيل البُعد المجازي، والانفتاح على تفجير المحمول المفرداتي باتّجاه طاقة من التأويل والإيحاء والإحالة وذلك بالتحرّر من المعنى الإيقوني أو المعجمي للمفردة اللّغوية وترحيل المعنى إلى أبعاد دلالية موحية أخرى، من خلال كسر المألوف اللّساني، وخلق الانزياح بالبحث عن المعاني والصور التي ينتجها مسار تحويل المفردة من نسقها القاموسي، وتفعيل دلالتها في الفضاء التأويلي، وتلك هي الديناميّة التي ارتكزت عليها نصوص المجموعة، وخلقت لها عوالم جماليّة عابرة لأجواء ومناخات الشجن والأسى بمعناه التقليدي والسطحي، لأنَّ الشاعر ليس نمطياً، فهذا الاشتغال الدلالي منح النصوص معاني وأبعاداً فاعلة في تعميق مركزية المعنى الإنساني، والبحث عن التوق والرمز للبسالة والإشراق في الموضوعات التي تبدو ظاهرياً أنها تنطوي على الحزن والرثاء . وعبر هذه المعطيات فإنّه خلق انزياحاً آخر على مستوى الغرض الشعري، وحوّل الرثاء إلى طاقة متوهّجة للبحث عن الحياة وعن لحظة التجلّي الوجودي والقيمي، ولم تؤدّ تلك التراتيل إلى خلق الأسى أو جلد الذات بسبب موضوعة الفقدان بل تحوّل الخطاب إلى نوع من التمجيد والإشراق والاشتباك مع المعاني والقيم السامية . واللافت من الظواهر الفنيّة الأخرى تمكّن النصوص من خلق موسيقى أو إيقاع داخلي أكسبها نوعاً من الجمال وعذوبة الفضاء الشعري واشتغالاته ومجازاته وصوره الانزياحية، وكشفت النصوص عن قدرة الشاعر (خضر خميس) تأسيس معالم القصيدة الموزونة وبراعته في الشعر العمودي، ولذلك جاءت نصوصه من معترك وموجهات هذه القدرة وكأنّه يومئ إلى تمكّن من القاعدة والميل إلى الاستثناء، والقرينة على هذا أنّه جعل عتبة الإهداء عبارة عن أبيات عمودية جميلة وموحية:
(المجموعة: 5) فالشاعر يقدم وصفاً دقيقاً لما ستؤول إليه نصوصه الباذخة المعنى والدلالة، ونلحظ في الإهداء الشعري إضمامة من البنية البلاغية بتوهج وسطوع الاستعارة، لاسيما في البيت: (ينثرُ الفجر مقلتيه غناء...) إذ تتوافر الرؤية مع الإحساس الإشراقي في معترك الإطار الإنساني، والمنحى الرثائي الذي يخرج عن أساره باتّجاه معان متعدّدة أخرى. يتجلى في شعر (خضر خميس) نمط من البوح الإشراقي المؤطّر بالشجن ومخاطبة الذات المتماسكة في نص جميل وشفيف، موسوم بعنوان المجموعة (أبوح بشجني)، إذ ينحرف باتجاه قصيدة النثر وهو المعروف بعموديته الراسخة، يقول: سانتظرك / بكل ثمالتي / وأبعد عنك / فحيح البئر / كي لا يمر بك رحيق الخيانة / أو تباع بثمن / تداوله الرعاع / سأنتظرك بعد كل احتراق / يومئ للجسد / ولا يمرّ على عنفوان اللغة لا (المجموعة:11) ويتوغّل في عوالم هذا التمجيد للذات الشاعرة، وموئل الجمال ليبوح في مقطع آخر بقوله: وكم / اقترفت أخاديد التأويل / لأدلّني عليك / وها هي أشجاري عند اشتداد ليلك / تضمّخت بالفؤوس / كم انتظرك وحيداً وأنا أضرم مفاتيح الحلم / باقتراحات الصباح / سأنهمر من أقاصي الشجن غاية أثمار / تشيّد لك أنغام البوح / مثلما شيدت لي كلّ هذه العراءات ... (المجموعة: 13) وفي مرثيته للشاعر الراحل (إبراهيم الخياط) نجد التركيز على بيئة المشهد الشعري، بذكر المكان، وإحدى لوازم الشاعر التي كان يلتقي بها الأصدقاء والنص ليس عمودياً إنما (تفعيلة): وكيف أصدّق / أنك غادرتنا / وذا أنت / تومئ للداخلين إلى / (باحة الاتحاد) وتهمس / أن مراياك ضوءٌ / وإن (على رأسي) / لما تزل وردة ما اعتراها الذبول ... (المجموعة: 15) وينتقل الشاعر إلى ما هو يومي، وإلى مصادفة المهاتفة قبل الرحيل في العيد: وإنّك / في العيد هاتفتنا / ولون تهانيك / كن لفيروز أو سمرة العندليب / تطل علينا / أنشودة البرتقال هداياك يا أيها النبع ... (المجموعة : 13) وهذا النص يعدّ تجربة مختلفة عن طبيعة أسلوب (خضير خميس) الشعري الباذخ بالإيقاع العمودي العالي الرنين فجاء منفلتاً من الوزن والقافية وقصدية مشهدية للبيئة (المكانية)، إذ هو وغيره من النصوص غير العمودية المنحرفة باتجاه (قصيدة النثر) أو (التفعيلة)، وفي هذا النص أن الشاعر استعار كثيراً من صفات ولوازم الشاعر، واستوحى طاقة المكان (الاتحاد) والإشارة إلى أنشودة البرتقال أو إلى مدينة الشاعر الخياط في ديالى، وإشارة إلى فيروز وعبد الحليم، وكان الراحل يعشقهما حتى أن نغمة رنينه كانت إحدى أغاني العندليب، وكل هذه الإشارات تمنح القصيدة صدقها وتلقائيتها، وهي تستعير هذه العلامات التي تشير إلى البيئة والمكان، ولوازم وصفات الشخصيّة، وكانت التفاصيل تمثّلاً صورياً لعنوان القصيدة التي وسمت بـ(هداياك أنشودة البرتقال) وهي إشارة استهلالية إلى الكرم والعطاء، وإلى رمزيّة البرتقال لمدينة الشاعر، وإلى رمزيّة ديوان الشاعر الخياط المعروف بـ(جمهورية البرتقال). ونلحظ ظاهرة التعلّق بالمكان بوصفه دالاًّ تعبيرياً ووجودياً فهو يخاطب بيروت بعنوان موسوم باسمها، لكنّه يكتب القصيدة العمودية بطريقة قصيدة (التفعيلة) السطريّة تحرراً بصرياً وكتابياً من الشطرين: لها / في عشب نجوانا / دروبُ / وشوق والفضاء بها / مهيبُ وأخيلة اليراع بها / سماء / إذا ناغيت بسمتها / تجيبُ / على قسماتها ضوء فسيحٌ / وفي أرجائها / شعرٌ عجيبٌ / وفيروز المسرّة / فجرُ صوتٍ وعطرٌ / ليس يعرفه النضوب / و(روشتها) / سبيل الحبّ لبّت وأرشفَ ظلّها عشق / رحيب (المجموعة: 21-22) ونلحظ مرّة أخرى الاهتمام بالفضاء المكاني وتوظيفه فنياً، والإشارات إلى البيئة المشهدية وبعض الإشارات الأخرى المقترنة بالمكان، فبيروت تقترن عادة بالمطربة (فيروز) التي أصبحت أيقونتها وإحدى مدلولاتها، وذكر (منطقة الروشة) التي تعدّ المعلم السياحي الرئيس بصخرتها وبحرها الذي يختزل الإشارة إلى المكان، فضلاً عن أن الشاعر عبرَ عن أنسنة المكان وجعل (بيروت) أنثى مكتظّة بالجمال والعطر. وتواجهنا صورة للتمجيد القدسي في قصيدة مهداة إلى الإمام الحسين وهو يصف زهوه وعنفوانه بعيداً عن بكائيات الرثاء التقليدي في نص موسوم بـ(وأشرقت شمسَ رفضٍ) الذي جاء مكتوباً أيضاً بطريقة الخروج البصري على الشعر العمودي مع أنّها عموديّة شطرية بامتياز : تباركت عنفوانا / وقد صغته / انبهارا / وسافرت حيث صحو من المجد / لا يبارى / أكاليل أمنياتٍ / نما غرسها بذارا / شذا عزمها / وكانت على أفقنا / مدارا .. صرت وحياً على كوننا / استدارا (المجموعة: 29) نلحظ في المقطع الشعري تمجيداً ووصفاً أخاذاً وتوكيداً على قيمة الرفض والشجاعة والعنفوان، ممّا خلق مشهداً مفعماً بالانبهار، وإلى سوح مجد لا يبارى، حتى تحول صوت الحسين إلى وحي، وتلك إشارة إلى أن الإمام كان منافحاً ورمزاً للقيم السماويّة، وإعلاء كلمة الحق ضد الفساد والانحراف، ويصل الشاعر إلى ذروة المعنى وبيت القصيد بالإشارة إلى الرفض وإلى أقدس (لا) في التاريخ: فاشرقت شمس رفضٍ / وأعلنتها جهارا / هي (اللاء) / سوف تبقى على ليلهم / اوارا (المجموعة: 30) ويستشرف الشاعر في نص (جموح المدى) زخم وتصاعد المد لانتفاضة تشرين الباسلة حين يبوح برثاء أحد شهدائها (محمد حبيب الساعدي)، والقصيدة عمودية مكتوبة بطريقة سطرية، إذ يقول: سيشع منك دم فصيح / ويفر منك مدى / جموح / وتقود هذي الأرض أهوالٌ وزلزالٌ وريحُ / يا أنت / يا فجراً تخضّب / فاستفاق له وضوح ما زال فجر التضحيات / بضوئه عبقاً يفوح / وأنرت / يا ألقاً تهجّى سرَّه صبحٌ ضريعُ ... (المجموعة: 49) تبهرنا عذوبة المفردات الشعرية المنتقاة وجمالية البوح، والتمجيد، إذ يركز الشاعر على جوانب الزهو والتوق والإشراق، ولم يلجأ إلى المحمول البكائي التقليدي، وهذا الاشتغال قد فعله أيضاً في رثاء الإمام علي (u)، وكوكبة الشهداء التشرينيين، ورثاء الشاعر الفلسطيني (أحمد يعقوب) وتضمن النص إشارات إلى المكابدة الفلسطينية . ونواجه أنموذجاً للإنزياح الدلالي في قصيدة نثر، والنص المنفتح على التأويل، وتعدّد المعنى، والرؤى والإحالات في نص (انثيال موجز) نجتزئ هذا المقطع الدال فيه، إذ يفخر الشاعر بتمجيد للوطن : ولكي تستنشق تلك المفاتن / حكمة الينابيع وسلاسة الأنهار ستشرق بجدوى أنيقة / لا تهادن الضفاف / وأن تكون لديك أيام باسقة / لتتشبث بها ممعناً / بالصباحات / وأن تكون لديك سماء مؤطرة بنثار / بليغ .. (المجموعة: 40) تمثل مجموعة (أبوح بشجني) تجربة تحمل كثيراً من الجمالية التعبيرية وتوظيف الصور والمفردات الشعرية وصولاً إلى نسق شعري مفعم بالدلالة والعذوبة والشجن . | ||||||||||||||||||||
المشـاهدات 35 تاريخ الإضافـة 29/06/2025 رقم المحتوى 64355 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |