
![]() |
قيس الجنابي الناقد الذي حرّك سواكن النص، وفتّش في ضمير التراث |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
محمد علي محيي الدين في المشهد الثقافي العراقي والعربي، ثمة أسماء لا تمرّ مرورًا عابرًا، بل تقف مثل منارات فكرية تضيء للسالكين طريق المعنى، وتدلل على مخبوءات الذاكرة، وتستخرج كنوز النصوص من طبقاتها السحيقة. ومن هذه القامات الناقد والباحث الدكتور قيس كاظم الجنابي، الذي وهب عمره للتنقيب في التراث، وقراءة التحولات، واستبطان المعاني الخفيّة في الشعر والسرد والتاريخ والأنثروبولوجيا. وُلد قيس الجنابي في الأول من تموز عام 1951 في ناحية جرف الصخر، قرب مدينة المسيب، شمال محافظة بابل. وكأن التربة التي أنجبته، بما فيها من إرث حضاري ممتد من بابل إلى أور، قد أورثته شغف الكشف، وقلق السؤال، ونهم المعرفة. من المدرسة الابتدائية في جرف الصخر، التي حملت لاحقًا اسم "مدرسة الكرامة"، بدأ وعيه يتفتّح، وتكوّنت أولى بُذور الحلم بالمعرفة. وواصل تعليمه في ثانوية المسيب، ومنها إلى كلية الآداب بجامعة البصرة، حيث نال شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، واضعًا بذلك قدميه على عتبة الطريق الذي سيقطعه لاحقًا بعزيمة لا تلين. لم يكن قيس الجنابي أسير التخصص الضيق، بل واصل دراسته العليا في اتجاهات فكرية متداخلة، فحاز على الماجستير في الوثائق والمخطوطات، ثم نال شهادة الدكتوراه في التراث الفكري، حيث درس في أطروحته أثر الشعر في تدوين الأحداث التاريخية خلال العصر الأموي، مسجلاً بذلك انفتاحًا مبكرًا على التداخل العميق بين الأدب والتاريخ. لكن ما يميز الجنابي، ليس فقط هذا التكوين الأكاديمي المتين، بل شغفه الثقافي الذي تجاوز الحدود الجامعية ليصير مشروع حياة. انشغل بتفكيك البنى الثقافية، وقراءة المعاني الراسبة في النصوص، وتعقب تحولات الوعي العربي من عصور ما قبل الإسلام حتى اللحظة الراهنة. وتجلّى هذا الشغف في مؤلفات تجاوزت الخمسين عنوانًا، غطّت مجالات شتى: من النقد الأدبي إلى التاريخ الثقافي، ومن التراث الشعبي إلى أنثروبولوجيا الطعام والجسد، ومن السرديات والمقامات إلى التصوف، بل حتى التجسس في التراث العربي لم يغب عن عدسته النقدية المتوهجة. إن كتبه ليست مجرد أعمال نقدية، بل مشاريع بحثية متكاملة، ذات نفس موسوعي، مثل: "الحكاية التراثية"، "الصعلكة وتجليات ما بعد الحداثة"، "شعرية المفارقة"، "المطبخ العربي"، "الرحلات الاستشراقية إلى العراق"، و"الرواية العراقية بعد الاحتلال الأميركي"، وغيرها كثير. وفي كل عمل من هذه الأعمال، كان قيس الجنابي لا يكتفي بالقراءة من الخارج، بل يتوغل في طبقات النص، باحثًا عن جدله الداخلي، عن علاقته بالمجتمع، عن أثر السلطة والذاكرة فيه، وعن جذور البنية الجمالية والفكرية. لقد تنقل بين الصحافة الثقافية، والمهرجانات، والجامعات، وندوات النقد، وملتقيات الفكر، فجمع بين صوت المثقف العمومي، ودقة المحقق، وبصيرة المؤرخ، وحسّ الناقد الفني. كتب في "الزمان"، و"المشرق"، و"السيادة"، كما شغل موقعًا فاعلًا في جريدة الأديب الثقافية، وكان عضوًا مؤسسًا في ملتقى الإسكندرية الأدبي، وعضوًا في المجلس المركزي لاتحاد الأدباء في العراق. لكن ما رأي النقاد فيه؟ إن تجربة قيس الجنابي النقدية أثارت إعجاب كثير من دارسي الأدب العربي المعاصر، لما فيها من تنوع، وجرأة، وعمق. كتب عنه نقاد عراقيون وعرب بوصفه أحد أبرز الأصوات النقدية التي لم تستسلم لمزاج السوق الثقافي، ولم تُغرها بريق الموجات العارضة. قال عنه أحد النقاد: "هو الناقد الذي يعيد قراءة النص بعيون ثلاث: عين التاريخ، وعين اللغة، وعين المخيال الثقافي، فلا يضيّع تفصيلة، ولا يتورط في قراءة عجلى". وعدّه آخر من القلائل الذين يملكون ما يُسمى بـ"الذاكرة النقدية الطويلة"، تلك التي لا تنبهر بالجديد لمجرد جدته، بل تمتحن كل نص على محك التجربة والمعنى. وآخرون وصفوه بأنه "عابر للتخصصات"، لا لأنه يهيم في العموميات، بل لأنه يقتحم الحقول المعرفية ويعيد ربطها بجذرها الثقافي العربي، كما في أعماله عن الجسد، والطعام، والتصوف، واليهود في التاريخ العربي، وهي موضوعات عادة ما تُترك لغير المتخصصين في الأدب، لكنه خاضها بلغة الناقد الرصين وبمنهج الباحث المتقصي. أما في مضمار الشعر، فقد وقف الجنابي ناقدًا يُحسن الإنصات إلى "جمرة الشعر في موقد الحزن"، كما عنوَن أحد كتبه، وغاص في شعر الستينيين، وحلل خطاب حميد سعيد، وأضاء المفارقة، والصورة، والرمز، والشذرة، فكان قارئًا لأعماق الشعر لا لسطوحه. ** إن قيس الجنابي، في جوهره، ليس مجرد ناقد ولا مجرد باحث. إنه "مثقف موسوعي النزعة، له قلب شاعر، وذهن مؤرخ، ولسان ناقد". يتنقل بين العصور كما لو أنه معاصر لها جميعًا، يقرأ التراث كما يُقرأ الحاضر، ويستحضر الأساطير لا ليمجّدها، بل ليستنطقها. وحين يكتب عن الصعلكة أو الجنون أو الرحلة أو المرأة أو الجسد أو المقامة أو الحرب أو السجون أو المطبخ أو الحكاية الشعبية، فإنه لا يفعل ذلك بوصفه موضوعًا أدبيًا فقط، بل بوصفه مفتاحًا لفهم الثقافة العربية نفسها، بأسرارها وتجلياتها ونواقصها أيضًا. لهذا كله، لا يمكن أن يُذكر المشهد النقدي في العراق الحديث دون أن يُخصّص فصلٌ طويلٌ لهذا الرجل، الذي علّمنا كيف يكون النقد موقفًا، لا مهنة. وكيف تكون الكتابة، في جوهرها، مشروعًا لفهم الذات قبل أن تكون وصفًا للآخر. |
المشـاهدات 176 تاريخ الإضافـة 23/06/2025 رقم المحتوى 64181 |