
![]() |
كل حاجة حلوة..مسرّات صغيرة تصلح كنجاة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
أريج جمال
بلا ألعاب في الإضاءة، ولا ديكور مسرحي إلا من ثلاثة مقاعد خشبية مُتقشفة على حافة المشهد المسرحي تستخدمها الممثلة في الجلوس أحيانًا، أو في إسناد كتاب، أو في دعوة للجلوس العابر توجِّهها إلى أحد المُتفرجين كي يلعب دورًا مُحددًا خلال لحظة مُحددة- هذه مسرحية "كل حاجة حلوة" من تمثيل: ناندا محمد، وإخراج: أحمد العطار عن نص مسرحي مُترجم من الإنكليزية بعنوان Every Brilliant Thing تأليف: دانكان ماكملين، وبمشاركة جوني دوناهو. عُرِضت في النصف الثاني من الشهر الماضي على مسرح روابط بالقاهرة، ولاقت حضورًا جماهيريًا كبيرًا، وسيتكرر عرضها في نهاية الشهر الجاري. في يوم من ثلاثة أيام العروض التي خُصصت لها في شهر أيار/ مايو، حضرت النجمة السورية كندة علوش، وكتبت لاحقًا منشورًا مادحًا العمل.تقوم "كل حاجة حلوة" على شخصية واحدة تلعبها الممثلة السورية المُقيمة حاليًا في القاهرة ناندا محمد. عبر المونولوج، تروي لنا حكايتها منذ كانت طفلة صغيرة، تحديدًا من أول محاولة انتحار لوالدتها مريضة الاكتئاب، وهذا الشعور الدائم بالخوف والتهديد يلاحقها، بما لا يستقيم مع براءة المرحلة العمرية. طفولة منعزلة تُفرَض على البطلة، فهي حتى لو كانت وسط أطفال الآخرين، تظل مُتطفلة على طفولتهم البسيطة. تتشبث الصغيرة بكلبها الأليف كعلامة أمان وحيدة، لكن سرعان ما يمرض الكلب ويموت. في روايتها عن نفسها، تحكي عن نظرة استغراب الصغيرة إلى عالم الكبار، الذي لا يُقدم لها أي تفسيرات عن عزلتها، عن غياب والدتها وهي حاضرة معها، وعن صمت الأب المزدوج.
طفولة انعزالية
يُعبِّر الأب عن مزاجاته بطريقة تحتاج الطفلة بعض الوقت كي تفك شيفرتها، عبر الموسيقى. وهو غاضب، يستمع إلى الأغاني الصاخبة التي يُقرَع فيها الطبل. إلى الأغاني الناعمة وهو جَذْلان. والموسيقى كلاسيكية وهو يعمل. مع الوقت، تستدعي كل حالة من حالات الموسيقى ردة فعل مُعينة من الطفلة، كأن تنضم إليه في حالات الفرح. أن تتفاداه مع الموسيقى الصاخبة، أو أن تحافظ منه على مسافة، مع الموسيقى الكلاسيكية.ومع ذلك يبقى الأب، هو الأقرب للطفلة، العنصر الإنساني الوحيد في عالمها الانعزالي. في محاولة لتجاوز الحصار غير المرئي هذا، تبتكر الصغيرة قائمة بالأشياء الحلوة في حياتها. "لِستة بكل حاجة حلوة". تعيش هذه القائمة مع الصغيرة، وتكبر معها إذ تكبر. ينضاف إليها المزيد من الأشياء، مع كل عمر وحالة. رقم واحد في اللستة الآيس كريم. تُزيد إليها لاحقًا: القطط الصغيرة، أو أكلة المكرونة بالبشاميل، أو مُعايشة حالات مُعينة كحالة (الصلح بعد الخناق) على سبيل المثال.تُصبح هذه اللستة حبل نجاة للصغيرة، حبل قوي أحيانًا (حين تقع في الحُب لأول مرة، وتتفتح مشاعرها كُلها دُفعة واحدة). أو حبل مواساة، حين تفقد هذا الحُب، بسبب ما خشيته من قبل، حين يتهمها (الزوج/ الحبيب لاحقًا) بأنها كئيبة. لأنها كما قرأت، تعرف أن الاكتئاب مُعد، وأن محاولات الانتحار قد تتكرر في العائلة نفسها. وإلى الشعور المُلازم بغياب الأم الدائم، تنضاف الخشية من أن تكبر أكثر، فتُشبه هذا الأب، أو هذه الأم، اللذين تسببا في كل ذلك العذاب. بعد فشل المحاولة الثانية لانتحار الأم، تعترف البالغة اليوم، على المُراهقة التي شهدت المأساة زمان، بأنها غضبت من أن أمها ما تزال على قيد الحياة، أن محاولتها لم تنجح، وها هي تسعى لبث المزيد من الألم في قلب وحيدتها، من غير أن تعي الأم ذلك تمامًا طبعًا.
أدوارنا كُمتفرجين
قبل العرض، قبل أن ندلف حتى إلى ساحة "روابط" التي ستحصل فيها المسرحية، ونحن جلوس نُدردش مع أصحابنا، مع رائحة التبغ والسجائر، طافت علينا ناندا، حافية، توزع علينا أوراقًا صغيرة، تحمل كل منها رقمًا، طلبت منّا أن نقول العبارة المكتوبة في الورقة حين تصيح هي بالرقم. هذه الأرقام، تُمثل بنود اللستة التي صاغتها البطلة في حياتها. لكنها أيضًا بنود تُذكِّرنا بالمسرات الصغيرة في حياتنا نحن غير المسرحية، بما يُمكن أن نكون قد نجونا منه، أو لم ننج، لجوءًا إلى أشياء صغيرة مُحببة، كشرائط كاسيت بأغان مُعينة، تُذكرنا بأوقات مُحددة من حياتنا، أوقات سعادة أو طفولة أو بساطة وانطلاق.إن ناندا محمد تُجسد كل ما في المسرحية تقريبًا، الطفلة والمُراهقة والشابة، أوقات المحنة، ولحظات الحُب والسكينة ثم الفقدان والتحرر والحلم بالتشافي. عبرها، عبر تمثيلها وحوارها وحركتها، وعبر التقشف في الديكور والإضاءة، مرّت لحظات دفء لكن أيضًا أجواء باردة، على الرغم من أن المسرحية عُرضت في ليلة حارة من ليالي القاهرة. ربما هي الأجواء الأصلية للمسرحية الإنكليزية. ولئن كان النص الذي تؤديه ناندا محمد بالعامية المصرية مُترجَمًا بأمانة، يحتفظ بالأسماء الأجنبية للشخصيات، وبجغرافيا ونمط الحياة الغربي لا العربي، ومع الاعتراف ببعض الحرية التي منحها المُترجِم والمخرج أحمد العطار لنفسه بالاستعانة مثلًا بأغاني عربية ومصرية، فإن جهدًا أكبر ربما، من ناحية التعريب والتمصير (لا فقط الترجمة)، من ناحية الروح، كان ليجعل هذا النص أقرب إلينا، وأشد صدقًا وحقيقية.أمَّا جهد الوصل بالواقع، الذي وقع على عاتق ناندا من جهة، وعاتقنا من جهة ثانية، فتجلَّى في الروح التي أضفتها مُشاركات الناس العفوية والتلقائية، على نص كان يزخر بالكآبة، لكنه بالناس صار مسرّة في ذاته. لم يُخبرنا أحد، ونحن نبتاع التذاكر، أن دورنا حيوي في النص الذي يعتمد علينا في خروجه على الشكل الجمالي الذي رأيناه، وكانت المفاجأة لطيفة، لعب الأداء الارتجالي الذي قلنا به الكلمة المكتوبة دورًا في لطافتها. أثناء المسرحية، تدعو ناندا بعض الحاضرين، إلى النزول من صفوف المتفرجين، والانضمام إليها، مرة للعب دور المُعلِّمة في المدرسة، أو الطبيب البيطري الذي حاول إنقاذ الجرو الأليف، أو حتى الحبيب/ الزوج الذي لا يفتقد إلى الطيبة. أدارت ناندا بمهارة وخفة هذه الحركة من وإلى المسرح، علمًا بأن صالة روابط محل العرض، ليست مسرحًا بالمعنى المعروف. المُمثلة ليست على خشبة مسرحية أعلى من مستوى المُتفرجين، على العكس هي وسطهم. أمَّا التدرج في المقاعد فيجعل المُتفرجين إما على مستوى واحد معها، وإما في مستويات أعلى قليلًا، وهو ما يُناسب روح العرض وفلسفته أيضًا. ناندا هي التي اختارت عشوائيًا على ما يبدو على الأقل، المُشاركين، لكن مع كل مشاركة بدا أن الاختيار ورائه عين فنانة بصيرة. أضافت هذه المشاركات إلى المسرحية قفشات كوميدية أحيانًا، خففت بطبيعة الحال من كآبة المحتوى، وجعلت الخروج والدخول من نص "كل حاجة حلوة" مسألة سلسة.
إلى النص وخارجه
كُنا كمُتفرجين ليلة العرض شهودًا على حياة البنت في مراحلها المختلفة، لكن أيضًا مشاركين أو مُشاركين مُحتملين في هذه الحياة. وبالمثل كانت ناندا بطلة العرض شاهدة علينا، تقيس نبض التفاعل، وتتحرك بناءً عليه، ترفع الحرارة حين تنخفض، تبعث البهجة حين يسود الصمت، وتُعلن امتنانها جهارةً وفورًا على هذه المشاركات من طرفنا كحاضرين، لا يتم العرض بلا تفاعلهم.تألقت ناندا حقًا في عروض مسرحية مُستقلة أخرى، منها الجزء الثاني من العرض التفاعلي "أوضة نومي" الذي عُرِض في مركز دوار الثقافي مع المخرج محمود سيد. وأشاعت على نفس المكان – ساحة روابط – بهجة وخفة ظل لا حدود لهما في مسرحية "الصوان" للفرنسي باسكال رامبرت. كما شاركت من قبل أحمد العطار مخرج "كل حاجة حلوة" مسرحية "السحر الخفي لأعمدة المجتمع" التي عُرضت على خشبة المسرح القومي السويدي، وكذلك على مسرح الفلكي بالقاهرة. أمَّا جهدها البدني والنفسي الملحوظ هنا، فتبدى كجزء من لحم العرض، جزء من صعوبة حياة البنت، وبحثها عن نجاة ما من حياتها.تبقى كلمة واجبة عن إشكالية عدم التحذير بمحتوى المسرحية الذي يمسّ الانتحار في الإعلانات الترويجية عنها، والانتحار موضوعة ليست سهلة، وربما تُثير ردود أفعال نفسية غير متوقعة عند أشخاص اختبروا بشكل أو بآخر عن قرب قصصًا من هذا القبيل في حياتهم الخاصة. للأسف يبقى التحذير غائبًا أو مُغيبًا في عديد الأعمال الفنية المصرية التي تتناول موضوعات حساسة. كأن الفنانين لم يستوعبوا تمامًا هذه الثقافة بعدْ، ثقافة أن يضع الفنان نفسه محل المُتفرج. في الكُتيب الذي يوزع مع المسرحية، لم نجد سوى كلمة المؤلفين الأجنبيين والمخرج أحمد العطار، بالإضافة إلى تقرير عن الانتحار في مصر، صادر عن مكتب النائب العام، نُشِر في صحيفة "المصري اليوم"، بتاريخ 18 كانون الثاني/ يناير 2022. ويصف إحصاءً بحالات الانتحار التي شهدتها البلاد عام 2021، فيه رأي الدين، وعلم النفس، واقتراح بقانون لتغليظ عقوبة الابتزاز المُسبب للانتحار. فهل رأى المُخرج في هذا التقرير تحذيرًا كافيًا؟ وكيف وهذا الكُتيب لا يُوزع إلا قبل العرض مباشرة، وبعد أن يكون المُتفرج قد ابتاع التذاكر فعلًا غير عالِم بما ينتظره!العرض من إنتاج شركة المشرق للإنتاج بدعم من المجمع الثقافي أبو ظبي، والملتقى العربي للفنون المعاصرة، وصندوق دعم الفنون العربية بباريس. |
المشـاهدات 26 تاريخ الإضافـة 01/07/2025 رقم المحتوى 64420 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |