
![]() |
كربلاء.. حيث بكت السماء والأرض في ذكرى استشهاد الإمام الحسين ((ع)) |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
كلية الحقوق - جامعة النهرين
ها نحن نقف من جديد على أعتاب كربلاء، على ترابٍ لا يزال يئنّ من وطأة الظلم، ويسمع فيه أنين السيوف على أجساد الطاهرين. في مثل هذه الأيام، لا يُعدّ الزمنُ بالأيام، بل يُقاسُ بالدماء الزكية التي نزفت من قلب الإسلام.أيّ قلبٍ لا يتمزق، وأيّ عينٍ لا تبكي حين يُذكر الحسين؟ ذاك الذي لم يعرف الراحة منذ خرج من المدينة، لا طمعًا في سلطة، ولا طلبًا لدنيا، بل لينقذ الأمة من الذل والانهيار، ويعيد لها رشدها وكرامتها. خرج وهو يعلم أن الطريق مفروش بالشهادة، لكنه قالها مدويّة: “إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما.” كلمات لم تكن شعارات، بل ميثاق الطفّ وروح كربلاء.
الوداع الأول… دمعة لا تجف
صباح العاشر من المحرم…نهارٌ لا شمس له، وسماءٌ رمادية تنذر بالفاجعة.خرج الحسين عليه السلام إلى ساحة الوغى، بعد أن ودّع أحبّته، واحدًا تلو الآخر…علي الأكبر… القاسم… العباس…خرج وهو يحمل في قلبه ألف جرح: جراح العطش، جراح الوداع، وجراح الأطفال ينادونه: “عطشان يا عم، عطشان يا أبا عبد الله…” تقدم برأسه المرفوع، حاملاً سيف جده، وقلب أمه الزهراء، ودمعة أبيه علي. وقف بين أعدائه ونادى بصوت السماء: “أما من ناصر ينصرنا؟ أما من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟” لكن القلوب ماتت، والضمائر خُنقت، والإسلام غاب عن تلك السيوف.
العباس.. الساقي الذي عاد مقطوع اليدين
ويا لهيبة العباس حين ركب جواده!لم يكن يطلب ماءً لنفسه، بل يحمل القربة لأطفال الحسين.وصل إلى الماء، مدّ يده… لكنه لم يشرب! “يا نفسُ من بعد الحسين هوني…” عاد والقربة مثقوبة، ويداه مقطوعتان، ووجهه مشعّ بنور الوفاء، وقال: “سيدي أبا عبد الله، هل أوفيت؟” فسقط القمر قبل مغيب الشمس، ولم يعد هناك ناصر.
الطفل الرضيع… دمعة لا يتحملها الوجدان
أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يُقيم الحجة الأخيرة. رفع طفله الرضيع عبد الله بين يديه، ونادى:“إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، ألا ترونه كيف يتلظّى عطشًا؟”لكن القلوب قُسّيت، فجاءه سهم مسموم، خرَق نحر الرضيع وذبحه بين يدي أبيه.رفع الحسين الدم إلى السماء وقال:“هوّن ما نزل بي أنه بعين الله.”فأيّ قلب لا ينكسر، وأيّ دمعة لا تسقط؟
السجود الأخير… جسد بلا أنصار
حين خيّم الصمت، وكان آخر ما تبقى في المخيمات هو الحسين…نزل إلى الأرض ساجدًا، يصلي في وسط السيوف والنبال.سقط الجسد الشريف، وتعلّقت الأرواح بالسماء.سقط جسد الحسين، لكنه سقط ليبقى الإسلام واقفًا، سقط ليعلو صوت:“هيهات منا الذلة.”
زينب.. من نار الطفّ إلى منبر التحدّي
وفي الليل الحالك، كانت زينب الكبرى تمرّ بين الأجساد…وقفت عند جسد أخيها، وقالت: “اللهم تقبّل منا هذا القربان.”ثم كانت السبايا، وسوق الكوفة، ومجالس الظالمين، لكن زينب لم تنكسر، بل وقفت في وجه يزيد وقالت:“فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا.”كانت وحدها، لكن معها الله، وكانت أسيرة، لكنّها حرّة في كربلاء الكلمات.
كربلاء… لم تنتهِ
كربلاء ليست حادثة منسية في دفتر التاريخ،هي دمعة في عين كل مظلوم، وصوت في ضمير كل حرّ، وثورة يتجدد وهجها في كل زمان.نبكي الحسين لأنه قُتل عطشانًا، لكنه روى ضمأ الحرية بدمه.نبكيه لأننا لا نزال عاجزين عن الوصول إلى عظمة كربلاء…لكننا، في كل عاشوراء، نجدد العهد:أن لا نركع للظلم، ولا نصمت عن الحق، ولا ننسى الحسين.
اسم الحسين لم يكن عاديًا… بل مقصودًا من السماء
ولعلّ من المعاني المؤثرة أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، عندما وُلد له الحسن ثم الحسين، أراد أن يسميهما بـ”حرب”، وهو اسم متداول في بيئة العرب آنذاك، يدل على الشدة والبأس.لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“بل هو حسن”، ثم قال عند ولادة الحسين: “بل هو حسين”.وكأن النبي ﷺ، أراد أن يُعلن منذ البداية أن هذا البيت النبوي لا يُراد له أن يحمل اسم السيف، بل راية الهداية، وأن الحسين سيكون رمزًا للسِلم، والحق، والحرية، لا مجرد فارس في معركة.
فاجعة كربلاء ليست فاجعة للمسلمين فحسب، بل هي جرح في ضمير الأمة كلها، وصرخة يتردد صداها في وجدان العالم بأسره
لم تكن فاجعة كربلاء جرحًا في قلب طائفة او مذهب، بل نزيفًا في وجدان الأمة الإسلامية جمعاء، كيف لا، والحسين هو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة؟وقد ورد في صحيح الترمذي عن النبي (ص) أنه قال: “حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا، حسين سبط من الأسباط”.
قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء “الحسين مظلوم شهيد، قتله فجرةٌ مجرمون، وكان قتله من المصائب العظمى”.وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أيضًا، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان كلما ذُكر عنده مقتل الحسين بكى وقال:“قتلوا ابن فاطمة! قتلوا ابن فاطمة!”أما الإمام أحمد بن حنبل، فقد نقل في فضائل الصحابة أنه قال:“ما لأحد من أهل البيت من الفضائل ما للحسين”.وقد جاء في مسند أحمد كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، بكى وهو يحتضن الحسين، وقال:“إن ابني هذا يُقتل في أرض يُقال لها كربلاء، ألا فمن شهِد منكم ذلك فلينصره”.
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
“وقد قُتل الحسين مظلومًا شهيدًا، وكان قتله من أعظم المصائب على الأمة”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
“وقتل الحسين وقتل غيره من الظالمين من أعظم الفجائع في الإسلام”
لقد نال الذين شاركوا في قتل الإمام الحسين عليه السلام جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة، فماتوا شرّ ميتة، تدلّ على سخط الله وعاقبة الظلم. فـشمر بن ذي الجوشن، قاتل الحسين، قُتل وقطّع إربًا، وحرملة بن كاهل، الذي ذبح الرضيع، أُحرق حيًّا، وعبيد الله بن زياد قُطع رأسه، وعمر بن سعد قُتل بلا صلاة، وخولي احترق في بيته. لقد اجتمع عليهم غضب الناس ونقمة السماء، وكانت نهايتهم درسًا خالدًا في العدالة الإلهية.وأما يزيد بن معاوية، فقد بقي اسمه ملطخًا بعار تلك الجريمة، وإن لم يباشر القتل بيده. وقد قال صالح بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن يزيد، فقال: “وكيف لا ألعنه؟! وقد فعل ما فعل بالحسين وأهل بيته!أنا أكتب هذه السطور بقلبٍ باكٍ، وروحٍ مفجوعة، لا كمؤرّخ يعرض حدثًا، ولا كأستاذ قانون يحلل قضية، بل كمسلمٍ يرى أن كربلاء ليست ماضٍ وانتهى، بل صرخة ما زالت تتردّد في ضمير الأمة.
أكتب وأنا أسمع بكاء زينب، أو أقرأ عن مقتل رضيع في حضن والده.
أكتب كعاشق للحق، لا كمجادل في المذاهب، لأن الحسين في ضمير كل مسلم هو درسٌ في الكرامة، وليس اختلافًا في العقيدة.
نعم، إن المذاهب تتعدد، لكن دم الحسين عليه السلام، لا يختلف عليه اثنان ممن عرفوا معنى الوفاء والعدل.ففي يوم عاشوراء، سقط رأس، لكن ارتفع مبدأ.وفي كربلاء، غاب جسد، لكن حضر التاريخ.
ختامًا…إن الحسين عليه السلام لا يحتاج إلى من يبكيه، بل من يمشي على خطاه.ولا يريد منا لطمًا على الخدود، بل ثباتًا على القيم.فمن أراد أن يُحيي الحسين، فليُحيي في نفسه شجاعته، ومروءته، ورفضه للذل.
سلامٌ على الحسين،وعلى عليّ بن الحسين،وعلى أولاد الحسين،وعلى أصحاب الحسين، وسلامٌ على كل من بكى قلبه قبل عينه، وإن اختلف مذهبه. |
المشـاهدات 32 تاريخ الإضافـة 06/07/2025 رقم المحتوى 64594 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |