الإثنين 2025/7/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
نيوز بار
ما زالوا يسكنوننا..المسرح يستحضر المغيّبين والمفقودين
ما زالوا يسكنوننا..المسرح يستحضر المغيّبين والمفقودين
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

علاء الدين العالم

 

تبقى مسألة المغيّبين والمفقودين هي الجرح المفتوح في التراجيديا السورية، وما كان السقوط وتحطيم أقفال المعتقلات إلا البداية في رحلة البحث الطويلة عن من غابوا في غياهب الظلمات. إنها رحلة صعبة يختلط فيها الإنساني بالسياسي، ويتقاطع فيها الحقوقي والقانوني، في محاولة لمعرفة مصير المفقودين والمغيّبين، سواء أولئك الذين غابوا في أقبية معتقلات النظام البائد، أو الذين اختطفتهم يد التطرّف والظلاميّة، كما كانت حال أعضاء مركز الانتهاكات في دوما (الصحافية رزان زيتونة، والكاتبة سميرة خليل، والشاعر ناظم حمادي وزميلهم وائل حمادة) الذين اختطفوا من مكان عملهم في مركز توثيق الانتهاكات في دوما عام 2013 في أثناء سيطرة "جيش الإسلام" على المنطقة، وهو المتهم الأول في خطفهم، ولم يظهر لهم أثر إلى اليوم إلا أن ذكراهم ما زالت حاضرة، ليس فقط بكلماتهم ونصوصهم التي تركوها وراءهم وحسب، بل عبر المسرح، الفن الذي اختارته مجموعة من الفنانين السوريين لاستحضار أصوات المغيبين عبر نصوصهم وكلماتهم التي تركوها. "لعلنا نستحضرهم بما تبقى من ذكرياتهم ونصوصهم وكلماتهم... فهي الناجي والشاهد على ما مروا به وعلى ما مر به أهلنا في الغوطة وحصارها حيث كانوا هناك لتوثيق جرائم وانتهاكات الأسد"، حسب تعبير مخرجة العرض حنان شقير.

 

غائبون اليوم حاضرون أبدًا

 

"ما زالوا يسكنوننا" هو العنوان الذي اختارته مجموعة من الفنانين السوريين لعرض القراءات المسرحية الذي قُدم على خشبة المركز الثقافي في مدينة جرمانا الواقعة على طرف دمشق. من إخراج حنان شقير، وغناء نعمة عمران، وأداء رنا كرم، فرح الدبيات، مجدي المقبل، رغدة خطيب، وبتنظيم ناصر منذر. مستذكرين الغائبين الأربعة عبر قراءة نصوص لهم مع تلوينات موسيقية غنائية أدتها نعمة عمران، وتبع النشاط المسرحي نشاط رمزي تمثل بزرع شجيرات في باحة المركز بأسماء الغائبين، وتعليق لوحة تذكارية بأسمائهم."كان التصفيقُ احتجاجًا قبلَ كلِّ شيءٍ، فلكلٍّ طريقتُه في الاحتجاجِ"، كذلك تحاكي الناشطة الحقوقية رزان زيتونة مسألة العدالة والسلطة في مقالها "أحلى من السُكّر". كتبته عام 2008 وكان النص الأول الذي انطلق منه عرض القراءات. لا يسمع المتلقي نص زيتونة بصوت واحد، بل يتوالى على قراءة المقال الممثلون المشاركون، بأصوات مختلفة وطبقات مختلفة وأداء صوتي متمايز. وذلك ما حوّل مقال زيتونة إلى نص أدبي بأصوات متعددة تستحضر رزان عبر كلماتها وهي التي كانت تحب الحياة وتجد أن "الحياة حلوة كما نرغب أن نعيشها. أحلى من السُكّر".استلهم العرض المسرحي عنوانه من نص أدبي للكاتبة الغائبة سميرة خليل "الذين رحلوا يسكنونني". كتبته إبان خروجها من سجن دوما، ذات المدينة التي ستخطف منها سميرة وتغيب. "كنتُ أتوقَّعُ أنَّ كثيرًا من الناسِ رحلت... لكنها تسكنني". كلمات سميرة هذه لم تكن فقط ملهمة لعنوان العرض، بل هي أساسه وفكرته، أن الغائبين والمفقودين يسكنوننا، ويسكنون ذاكرتنا ولو اعتقدنا غير ذلك. وأنهم ولو اختفوا جسدًا فإن "شيءٌ منكنَّ ما زال في المكانِ".يأتي شعر ناظم حمادي بعد ذلك بما هو فسحة شعرية في العرض. يأتي صوته من خلال الغياب عبر قصائده التي قرأها الممثلون تواليًا، وأولها كانت قصيدة "كمن وجد نايًا" التي يقول فيها: "طوبى لك/ طوبى لك/ لا يَفنيكَ انتظارٌ ولا بكاءُ/ لا يوجِعُكَ احتمالُ/ لا يأسُركَ انتحارٌ، ولا بقاءُ". أما القصيدة الثانية لحمادي التي قُدمت على الخشبة فكانت قصيدته المهداة إلى رفيقة غيابه رزان زيتونة بعنوان "قطعة سما"، وهي قصيدة تنضح بالأمل، بأمل الخلاص من الجلاد والعودة إلى الحياة الطبيعية "انحناءُ يدِ الأمس على كتفِ المستقبل/ أمَلْ/ الأحاديثُ الصغيرة/ عن ألمٍ خفيفٍ في الذاكرة/ وعن رغبةِ الانفلاتِ في المساءات/ كطيرِ الحجَل/ أمَلْ/ يأسُ جلادٍ من الابتسامة/ ومن حراسة الأسماء/ التي طَلِعت حولَه كالخزامى".

 

الفن بما هو مَنفَذ إلى الآخر الغائب

 

"الصوت هو تذكّر، والصوت إشارة، وأنا اليوم بعثت إشارات للغائبين"- بتلك العبارة وصفت مغنية الأوبرا السورية نعمة عمران عرض "ما زالوا يسكنوننا"، بعد أن شاركت فيه عبر غنائها بعضًا من قصائد ناظم حمادي ومنها "حاضر ما سيأتي"، وأنهت العرض بأغنية يا نجمة الصبح مع المجموعة. أضاف غناء عمران بعدًا فنيًا وإنسانيًا جديدًا لعرض القراءات، إذ كان الغناء وكأنه تراتيل تستحضر الغائبين وتستذكر أثرهم وترسل لذكراهم حب ذويهم وكسرة قلب ذويهم. إن جملة عمران السابقة يمكن سحبها على الفن عمومًا وليس الغناء وحسب، ففي بلد منكوب كسورية، تكاد لا تخلو فيه عائلة من معتقل أو مغيب أو قتيل، يغدو للفن دور إنساني يمكنه من خلق ممر مُتخيَّل نحو الآخر الغائب. سواء صُنع هذا الفن من أجل استحضار المغيبين واستذكارهم أو صُنع بكلام المغيبين وكلماتهم التي تركوها وراءهم قبل أن يرحلوا، كما كانت حال عرض القراءات "ما زالوا يسكنوننا".من جهة أخرى، إنسانية وتأريخية أكثر من كونها فنية، يوثق العرض لحظات صعبة عاشها المختطفون الأربعة في غمرة حصار الغوطة الشرقية حيث كان مركز عملهم في توثيق الانتهاكات. من ذلك مثلاً ما جاء في نص لسميرة خليل تصف فيه حالة الحصار والحياة اليومية داخله وكان عنوانه "بدنا أدوية على معدة فارغة تمامًا، مو قبل الأكل بساعتين". أو نصوص تعكس الحالة البائسة في غمرة الدم والقتل مثل مقال زيتونة الذي تقول فيه "وماذا بعدَ توثيقِ الاسم بعدَ الآخرِ، وتوجيهِ النداءِ بعدَ الآخرِ؟ أعملُ كحفّارِ القبورِ الذي اعتادَ دفنَ موتاه وهو يتثاءبُ، وعَرْضِ نعواتِهم في متحفِ المنظّماتِ الدوليةِ. لماذا يحرصُ المجتمعُ الدوليُّ على توثيقِ ما يَشهدُ من جرائمَ تحتَ أنظارِه؟ لماذا يهتمُّ المجتمعُ الدوليُّ بهذا التنظيمِ وتلك الدقةِ في رصدِ أنَاتِ الضحايا وتحنيطِها في أرقامٍ وشهاداتٍ وجداولَ؟ لماذا عَلَيَّ أن أستمعَ مرةً تلوَ الأخرى إلى شهادةِ معتقلٍ يروي كيف تعرّضَ للدّعسِ والتمزيقِ والتشويهِ والحَرقِ".لم تقدم شقير القراءات بصيغة واحدة، وبصوت واحد، بل اعتمدت التنويع في القراءات، حيث النص الواحد يُقرأ من قِبل كل الممثلات والممثلين، ما ساهم في تعزيز تنوع الأصوات واختلافها، بين الصوت النسائي (رنا، فرح، رغدة) والصوت الرجالي (مجدي) والصوت الرنان الكبير (نعمة عمران)، بالإضافة إلى التنويع في الأداء الصوتي لكل المؤدين، فلم يتم قراءة النصوص بحيادية أو بطريقة خطابية، بل جاءت انسيابية تتنوع نبرتها بين قراءة المقال وقراءة الشعر أو النص الأدبي واليومي.

 

المسرح في جرمانا جارة الفيحاء

 

"المسرح لا يختصر الزمان والمكان... بل يستحضره ويحاكمه"- كذلك تجيب مخرجة العرض حنان شقير عن اختيار المسرح كفن لاستذكار الغائبين، تؤكد شقير أن المختفين الأربعة لا يمثّلون أنفسهم فقط بل "يُمثّلون آلاف السوريين المغيّبين قسرًا. كما يمثّلون سورية الحرة، التي نحلم بها، الغنية والمتعددة الأصوات، سورية الديمقراطية القائمة على المواطنة، لا تمييز فيها وفقًا للدين أو الطائفة أو الإثنية، أو الجنس".من جهة أخرى، يؤكد ناصر منذر، منظم العرض، أنه تم الاعتماد على النصوص الأصلية للمفقودين بدلًا من كتابة نصوص تستحضرهم. حسب منذر: "اخترنا أن نستحضر كتاباتهم هم، لا أن نتحدث نحن أو آخرون عنهم. أن نحمل بأمانة أصواتهم وكلماتهم للجمهور، والتي عبّروا فيها عن رؤاهم وأحلامهم ويوميّاتهم، سيما وأن بعض هذه النصوص (كأوراق سميرة وبعض مقالات رزان) كُتبت في ظروف الحصار والقصف الذي عاشوه مع المحاصرين في الغوطة الشرقية". على جانب آخر، تشير مخرجة العرض إلى أن العرض لم يكن فقط للاستذكار، بل لطرح وإعادة طرح سؤال العدالة، "سميرة ورزان ووائل وناظم هم من رموز الثورة السورية الأبرز، ومن شأن تحقيق العدالة في قضيّتهم أن يُسهم في فتح باب للعدالة لكل قضايانا الأخرى".إن نصوص رزان وسميرة وناظم ليست متاحة كاملة على الإنترنت، وليس بالهيّن الوصول إليها، فهي عند ذوي المفقودين وأقربائهم، ومن هنا كان السؤال عن آلية اختيار النصوص والصعوبات التي واجهت الفريق في جمعها، يجيب منذر عن الآلية بقوله: "حاولنا اختيار نصوص توضّح الحس الإنساني العالي لسميرة الخليل وحضورها المؤثّر فيمن حولها، والالتزام النبيل لرزان، في كل ما فعلته وكتبته، قبل الثورة وبعدها، بقضايا حقوق الإنسان والعدالة. والفكر التحرّري المُحتفي بالحياة والحب والأمل لناظم حمّادي". وعن صعوبات جمع النصوص، يقول ناصر: "عندما بدأنا العمل لجمع النصوص، لم نكن نملك سوى كتاب سميرة الخليل، 'يوميات الحصار في دوما' 2013 الذي حرّره وقدّم له الكاتب ياسين الحاج صالح. كذلك الأمر مع مقالات رزان القليلة المتناثرة على الإنترنت، والحال ذاتها مع قصائد ناظم، لكن هذه النصوص، بتقديرنا، لا تعطي صورة كافية عن عمل رزان وكتاباتها ونضالها الطويل قبل الثورة وبعدها. فعملنا على مزيد من البحث وسؤال الأصدقاء والمعارف عن مصادر أخرى". ونتيجة هذا البحث تمكنت المجموعة من الوصول إلى كتاب رزان "رزان زيتونة: الحضور والغياب" ويضم 46 مقالة ودراسة وديوان ناظم "ضد" الذي نُشر عام 2017 بعد غياب ناظم بأربع سنوات. وفي سؤال منذر عن غياب أي نصوص لوائل حمادة أجاب: "لم نستطع، للأسف، الوصول لنصوص أو كتابات وائل حمادة، علمًا أننا تواصلنا مع شقيقه في ألمانيا (الذي تواصل أيضًا مع عائلته) كما تواصلنا مع أصدقاء وائل. فاخترنا أن يكون، رغم غياب كلماته، حاضرًا معنا، كما آلاف الأشخاص الذين نعرف عنهم أقلّ، ونعرف أن نُبلهم كان سبب حرصهم في ألا يكونوا مرئيين فيما يقومون به من عمل".ليس العرض وحده ما كان مهمًا، بل توقيت العرض ومكانه، إذ أتى "ما زالوا يسكنوننا" في الوقت الذي كانت فيه جرمانا خارجة للتو من تشنج عسكري كاد أن يؤدي إلى احتراب أهلي، وذلك ما يؤكده ناصر منذر، ابن مدينة جرمانا، والذي تمكن عبر النادي السينمائي من تقديم عشرات الأفلام وخلق حالة ثقافية وفنية خارج مركزية دمشق، وعن ذلك يقول منذر "كانت فكرتنا بداية أن ننفذ هذا النشاط في مدينة جرمانا الواقعة في الغوطة الشرقية للمساهمة في "كسر المركزية" للعاصمة دمشق التي تستأثر باهتمام النشطاء والفاعلين، بعد سقوط نظام الأسد، دونًا عن باقي المناطق السورية. ثم جاءت أحداث مطلع شهر أيار/ مايو، والتي عاش فيها سكان جرمانا أيامًا عصيبةً (حصار واشتباكات ووقوع ضحايا وحملات تحريض وخطابات كراهية) انحسرت خلالها مظاهر الحياة والتنقّل والعمل في المدينة لعدة أيام! مما عزّز اختيارنا، نحن فريق العمل بالاتفاق مع الكاتب ياسين الحاج صالح، لجرمانا مكانًا للعرض، كتعبير عن إصرارنا على التمسّك بحقنا في حياة غير قائمة فقط على 'الكفاف الأمني والمعيشي'".عملت المجموعة من دون أي تمويل أو دعم مادي، وبمبادرة تطوعية من المشاركين، وتحمّل المنظمون كامل الكلفة المادية لمستلزمات هذا العرض وتنظيمه. لكن هذه الصعوبات المادية لم تمنعهم من تقديم قراءات مسرحية حققت حضورًا جماهيريًا واسعًا حسب شقير ومنذر اللذين وصفا تفاعل الجمهور بالمذهل، "فبالرغم من الظروف السابقة، فاق عدد الحضور 250 شخصًا، أتوا من مناطق ومدن سورية عديدة، حتى أن العشرات منهم لم تُتح لهم أماكن للجلوس". كما تطمح المجموعة إلى إعادة تقديم العرض في مناطق أخرى من سورية "ونفكّر في إعادة تقديم العرض في دمشق العاصمة وفي حمص كذلك (بلد سميرة الخليل) وفي أماكن أخرى. بهدف إدخال قضيّة مختطفي دوما الأربعة على أجندة النقاش العام من ضمن الاهتمام بقضيّة المغيّبين القسريين في سورية. لكن دون ذلك متطلّبات مادّية ولوجستية لا بدّ من تأمينها"."أرادها طائفيةً ونريدُها حريةً"- تلك هي الجملة الأولى التي بدأت بها رزان زيتونة مقالها في "افتتاحيةُ مجلةِ طلعنا عالحرية" – حزيران/ يونيو 2012. عادت هذه الكلمات لتحضر على خشبة المسرح السوري في أكثر اللحظات حساسية طائفية، وفي وقت نحتاج فيه إلى مثل هذا الفكر، وإلى إعادة إحياء مبادئ الثورة السورية حول الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، وكأن المجموعة التي قدمت العرض تعيد إحياء صرخة زيتونة قبل أن تختفي في وجه من يريدها طائفية وإننا نريدها حرية وسنبقى.

 

المشـاهدات 64   تاريخ الإضافـة 22/07/2025   رقم المحتوى 64972
أضف تقييـم